اذا كان ثمة مدخل حقيقي لفهم النظام التربوي الغربي، وتأثيراته المجتمعية فهو موقفه من الإنسان وعلائقه المختلفة. اذ مرّ الفكر الغربي بفترات وحقب، وكل فترة وحقبة طبعت واقعها بأولوياتها وإستراتيجياتها المجتمعية، الا أن الخيط الدقيق، الذى يربط كل حقب التاريخ الغربي، هو المنظومة الفكرية العليا وموقع الإنسان في مفاهيمها وهياكلها العامة، اذ تحكمت هذه المسألة في سياساته ومواقفه التاريخية، ونظرياته المعرفية وتحليلاته وأنماطه الإقتصادية.
ولا حـــــاجة هنا إلى إستـــدعاء الجــــهد الأبستمولوجي[1]، الذي بذلــــه بعض مفكري الغرب كـ( باشلار ـ كانغليم ـ كارل بوبر ) من أجل إعادة تأسيس الهيكلة المعرفية للبحث العلمي المعاصر التى أصيبت ببعض الخلل أخذت ابعاداً معرفية وتربوية متعددة، ومن حق الأبستمولوجي هنا أن يتساءل عن مدى العلاقة بين نظام معرفي خلفي، يقود عقل الباحث والمفكر وبين النظام التربوي السائد في ذلك المحيط الإجتماعي، ولعلنــــا لا نذهب بعيــــداً، حينما نقول أن هذه التساؤل وخلفيته المعرفية، هو الذى دفع الرئيس الإمريكي ( كنيدي ) في الستينات من هذا القرن، إلى المطالبة بتغيير النظام التربوي والتعليمي، حينما سبقت بأرتياد الفضاء من قبل الإتحاد السوفيتي.
وذلك لأن النظام التربوي ( بالمعنى العام )، هو المرجعية الاولى لمختلف الأبنية العقلانية، وهو النسيج الذي يتلبس المجتمع من خارجه، ويختصر غناه اللامحدود في هيكلة من المتواليات المنطقية والأطر المتداخلة ـ مع بعضها البعض، ومشكلة جميعا كيانا إجتماعيا واحدا وذا صبغة ابستمولوجية متداخلة.
وهذه المنظومة المعرفية، هي التى تتيح لأبناء المجتمع في حركاتهم وسكناتهم الإنضباط وفق قانونها الذاتي، بحيث يكون الفعل الإجتماعي إضافة نوعية وكمية دائمة إلى تلك المنظومة.
وعبر هذا الإنتظام، تتأسس شبكة البديهيات والضرورات في العملية الإجتماعية بأسرها. وهنا تبدو موقعية النظام التربوي في أي كيان مجتمعي، في ترتيب أولوياته، ونسج علاقاته الداخلية والخارجية.
وتنبع أهمية قراءة النظام التربوي الغربي، وبيان تأثيراته على الإنسان وعلائقة المتعددة. من القدرات الهائلة التى تملكها الرأسمالية الجديدة والتى تستطيع من خلالها، التأثير في التفكير البشري والزامه بهذا المنطق.
وليس معنى ذلك أن الرأسمالية الجديدة، تفرض حجراً على هذا الفكر بل أن القوة في هذا المجال، هو أتجاهها نحو قلب الموازين، حــيث أن أثرها البعيد المدى نجح في إيجاد بنى إجتماعية تعتبر جهلها وعدم فهمها لما يجري مكسباً لها، على حد تعبير" جاك ديكورنوا " في ( تبعية نظام الأعلام لانظمة الشمال).
وتثار المسألة التربوية في الفضاء المعرفي الغربي، ضمن تلك الصلة الشديدة التى تربط الحقول المدنية المختلفة، بمرجعية السلطة ( بالمعنى العام ) كأطار مرجعي على صعيد الفعل الإنساني كما أسس لذلك ( نيتشه ) ومن بعده ( ميشيل فوكو).
(( ولهذا نجد أن الأندفاعات الغربية المتتالية، ولدت في رحم النزوع القوي إلى السيطرة على الآخر ( وجود ـ ثروات ـ موقع ـ تاريخ ) وإستتباعه ضمن مركزية كوكبية، أخضعت مفاصل التفكير لتتابع هذا النزوع، ضمن عالم فريد صنعته هي، يتوقف فيه الإنسان كذات عن التأثير أمام طوفان المواضيع والمشاريع، الذي يندفع إلى حدود طغيان قوة الواقع على المدد المعرفي الإنساني ليبرز أغرب صراع يواجهه الإنسان في تجربته، صراع نوعي جديد تولد فيه المعرفة الجديدة، مع كل مخاوف الواقع البشري الذي تعصف فيه أزمات كيانية لا حــــدود لأخطارها، كما أنه لا حدود للمخاوف التى يمكن أن تجعل سطح هذا الكوكب مسرحاً لانهيارات كبرى )).
وبعبارة أخرى نرى أن المسوغ الأساسي لقراءة النظام التربوي الغربي وأكتشاف مدى تأثيره الحيوي على مجمل المرافق والحقول، هو من أجل تلافي نزعة التدمير، التى تشغل حيزاً رئيسيا في الإستراتيجيات الغربية الدفاعية والإستراتيجية، ولعل العمل على تلافي التدمير كان أحد الدوافع الأساسية للكثير من المشاريع الفكرية (المنهجية ) والســـــياسية التى أنبثقت في الغــــرب عــــبر تاريخه المديد.
تحاول النظرة الرأسمالية الحديثة إلى الإنسان في سياق التطويع والصياغة بعيداً عن تفسير فعله وموقعيته وإعتباره مؤثراً في الإجتماع الإنساني فنظرية الحتمية البيولوجية، تحاول إقامة نظام كلي لتفسير الوجود البشري.
وأساس هذا النظام المبدآن القائلان، أن الظواهر البشرية الإجتماعية هي النتائج المباشرة لخصائص جسدية ـ فطرية. فالحتمية البيولوجية هي اذن تفسير تبسيطي للحياة البشرية تنفذ فيه سهام السببية من الجينـــات إلى أفـــــراد البشر ومن أفراد البشر إلى البشرية.
"فالمشكلات الإجتماعية تحال إلى مجرد مشكلات طبية، أي إنها مشكلات لا يمكن علاجها عن طريق التغيير الإجتماعي، وإنما بما يسمى العلاج الطبي الذي يعيد تكييـــــف الأفراد مـــع المجتـــمع، فمشكلة حوادث الشغب في الأحياء الفقيرة بمدن الغرب، ومشكلة المنشقين في الأتحاد السوفيتي السابق تعالجان بإستخدام العقاقير النفسية وربما بجراحة المخ، أو حتى بوسائل الهندسة الوراثية التى تغير جينات الفرد ".
ويحاول ( بريجنسكي ) في كتابه ( بين عصرين ـ أمريكا والعصر التكنوتروني ) الصادر عام 1970م بلورة الهدف الإستراتيجي القادم للوصول إلى مرحلة يتم فيها تأثير التكنولوجيا والألكترونيات في جميع مناحي الحياة، وذلك ضمن مرحلتين كما يقرر (زبغينو بريجنسكي)، صناعية وما بعد صناعية حيث تكون المرحلة الاولى : الاسراع بتقنيات الآنتاج وتحسينها، وليست المرتبات الإجتماعية سوى النتاج الثانوي المتأخر لهذا الهدف الأعم.
أما المرحلة الثانية : فإن المعرفة العلمية والتقنية، تطغى بسرعة لتؤثر في معظم أوجه الحياة مباشرة، بالاضافة إلى أنها تقوي إمكانيات الانتاج في مجتمع يتشكل ثقافياً ونفسياً وإجتماعياً وإقتصادياً بتأثير التكنولوجيا والالكترونيات.
وهذه المسألة لا تقف عند حد معين بل تستمر بالاستفحال والتضخم، حتى تصل إلى مستوى يبدو فيه الإنسان مصنوعاً اكثر من كونه أصيلاً، حتى مشاعرنا تدرك واقعاً جديدا كلياً من صنعنا، ومع ذلك فهو حقيقي تماما بمقاييس مشاعرنا على حــــد تعبير كتاب ( بين عصرين ).
وبالتالي فأن النظام التربوي الغربي، يرفض أن يتقبل البشر ( كما يقول ستيفن روز) سوى على أنهم ليسوا الا حركة جزئياتهم فلقد أتخدت الآلة الوحش نموذجاً للكائن الحي. فالحياة تختفي حالماً توجد، كما يبحث عنها من خلال المخلوقات التى يشرحها.
لقد جعلت الثنائية من الإنسان روحا مطعمة في ميكانيكا جثة متسافدة بشبح، ولعل المفكر الغربي ( هوبز ) حاول في بعض كتابه، كما يقرر ( صفدي ) من عكس هذه الظاهرة عبر مقارنته الصريحة بين الإنسان والآلة وشبه أجزاء المجتمع البشري بأجزاء الآلة.
ومن الطبيعي أن الخلل الضارب بجذوره في البنية التربوية الغربية، التى تسعى جاهدة نحو تشيؤ كل شيء من الإنسان وأنتهاء بكل المـــوروث الثـــــقافي والحــــــضاري الإنساني، وأضحت الوظائف البشرية (في المنظور الغربي) في تماثل مع الحيونات الآخرى ويحلل (غارودي ) هذه المسألة في كتابه بقوله : ينحصر المأزق الثقافي، في ذلك السيلان الذي يفــــرض نفسه كواقع موضوعــي، حيث عدم العودة إلى الصدور من سبب وإنما من مشروع إلى مشروع، ليس من كيف إلى كيف وإنما من لماذا إلى لماذا.
واذا كان التحكم بالأشياء من أجل الكينونة، فقد توقف العقل الغربي عند وظيفة التحكم وتنتقل هذه النزعة من حقل إلى آخر من صعيد إلى آخر. أي أن الحلقة تفضي إلى أختها، لذلك فأن مسلسل الانتقال والتحويل متصل ودائم ولقد تعالت صرخات بعض المفكرين الغربيين، الذين فهموا وادركوا أبعاد الإنحدار الإنساني الذي يسعى الغرب إلى جر العالم اليه.
ولعل هذا الإنحدار السحيق نحو الهاوية، هو الذي أدخل الغرب في نفق العدمية والعبثية ويشير إلى هذه المسألة (نيتشة) بقولة : ماذا فعلنا حين فصلنا الأرض عن شمسها ؟ إلى أين نسير ؟ إلى أين نذهب بعيداً عن الشمس ؟ الا نواصل السقوط والإنهيار إلى الوراء ؟ وعلى الجانبين ؟ إلى الامام ؟ هل لا يزال يوجد فوق وتحت؟ الانتيه في عدم لامتناه؟ الا يشتد البرد أكثر ؟ الا يخيم الليل ؟ وأكثر وأكثر ظلاماً ؟ الانحتاج لمصابيح في عز النهار ؟
موقع معهد المعارف الحكمية
[1] نظرية المعرفة بالإنجليزية: Epistemology هي فرع من فروع الفلسفة تهتم بطبيعة ومجال المعرفة. وهي تحاول الإجابة عن الأسئلة التالية: ما هي المعرفة؟ كيف يمكن امتلاك المعرفة؟ وما هو مدى المعرفة بموضوع ما؟ يركز البحث والنقاش في هذا المجال على تحليل طبيعة المعرفة ومدى إرتباطها بمفاهيم الحقيقة والإيمان والتبربر.
بتوقيت بيروت