طلبت منّا أستاذة صفّ «الخطابة» لهذا الأسبوع أن نعرض صورة من اختيارنا ونتحدّث عنها بعفويّة في دقيقتين. عرضتُ صورةً لي مع صديقتيّ، كنَا قد التقطناها العام الماضي في احتفال اليوم الوطنيّ لدولة الإمارات العربيّة المتّحدة، حيث كنا نرتدي فيه «الشماغ» (الذي يضعه الرجال على رؤوسهم في الزيّ الوطنيّ الخليجيّ). تناول عرضي المختصر إعجابي بالروح التي تعيشها دبي في فترة الاحتفال، وتقديري للوافدين حيث يعاونون مواطني الدولة بكلّ حماس على إحياء هذا اليوم. اخترت هذا الحدث تحديدًا لأنّه الأوّل لي في احتفال ثقافيّ غير لبنانيّ، خاصّة أنّي أمضيتُ 18 عامًا كاملة دون مغادرة الأراضي اللبنانيّة، إلى أن قرّرت الانتقال إلى دبي العام الفائت.
مرّ الوقت
سريعاً ونحن نستمع لتجارب مختلفة من زملائي: صورة من الحيّ في سوريا، أخرى للفضاء،
وأخرى من رحلات أمضاها البعض خارج البلاد... وغيرها، إلى أن قدّمت زميلتي قمر
العرض الأطول والأخير. الصــورة كانــت تُظــهرها وهي تنظر من نافذة السيّارة وفي
الخلفيّة سهل أخضر فسيح. بدأت قمر بسرد حكاية تلك اللحظة: «التُقطَتْ هذه الصورة
في القدس في العطلة الصيفيّة الماضية التي زرتها بعد غيابٍ دام 12 عاماً. كنتُ مع
ابنة عمّي وأختي نتناول الفطور في بيت لحم، عندما صرخت ابنة عمّي: «هيّا نزور
القدس...!».
لم تزُر قمر القدس قط. وبعد نقاش دار بين
الفتيات حول المجازفة في القيادة إلى القدس، والمخاطرة في سحب رخصة ابنة العمّ
لأنّ من يرافقها لم يحصل على إذن مسبق من السلطات لزيارة الأراضي المحتلّة، قرّرت
الفتيات تحدّي الاحتلال. كانت قمر عازمة على خوض التجربة بالرغم من خطورة الموقف.
تتابع قائلة: «تلك كانت أصعب دقائق مرّت في حياتي. أقلقني احتمال أن يعتقلنا الإسرائيليّون، خاصّة أنّ ابنة عمّي ترتدي الحجاب، وكان من الواضح أنّنا فلسطينيّون. لكنّي كنــت أتحــرّق شوقًا لتطأ قدماي القدس، فهي حلــمي مــنذ سنين». ثمّ أخبرتنا بلهفة عن لحظة توقّف سيّارتهنّ عند المعبر الإسرائيليّ، حيث طلب منهنّ الجنديّ رخصة ابنة عمّها، ثمّ أومأ لهنّ باجتياز الحاجز.
تقول قمر أنّ قلبها كان يخفق بسرعة جنونيّة لهول الأفكار التي راودتها في تلك اللحظات المفصليّة. ثم تختم منفعلة: «لم أصدّق نفسي. زرت القدس، وأقمت الصلاة في الأقصى، وعاينت الأماكن التي روى لي أبي عنها من ذكريات طفولته، وتناولت الكعك الذي لطالما أحبّ في البلدة القديمة. كان حلمًا لم أرد أن ينتهي».
فرح قمر وغصّتها حملاني إلى مشهد لا يمّحي من ذاكرتي. لم أتجاوز الخمسة أعوام حينها، وكان العدو الإسرائيلي لا يزال يحتلّ جنوب لبنان. كنتُ بصحبة عمّي وعمّتي نتّجه إلى منزل جدّي في القرية، وكان علينا عبور حاجز للجيش الإسرائيليّ مقابل قلعة الشقيف. عند رؤيتي للبزّة الخضراء الداكنة والبندقيّة المتأهّبة دومًا، أخفضت رأسي لأحتمي بعباءة عمّتي التي أجلستني في حجرها. فتّش الجنديّ السيارة سريعًا ليتأكّد أنّنا «لا نثير الشبهة»، ثمّ أزاح لنا الحاجز سامحا لنا بالعبور. حاولت عمّتي تهدئتي ببعض الكلمات: «ما تخافي ما بيعمل شي...». لكنّ براءة سنّي حملتني على البكاء.
عايشتُ العدوان الإسرائيلي على لبنان بكلّ بشاعته ووحشيّته، خاصّة في حرب تمّوز 2006، وكنتُ في الثانية عشرة فقط حينها. شئتُ أم أبيت، تسرّبت الحرب إلى وجداني، بكلّ قساوتها وعنفها وجحيمها: من أطفال قانا إلى مشاهد الدمار والخراب التي شوّهت الجنوب وقراه وشلّت بيروت، مرورًا بالتهجير وإبادة البيوت وقد كان لمنزلنا في النبطيّة حصّة وافرة من التكسير جرّاء القصف المتكرّر لحيّنا في 2006 وصولًا إلى الانتهاكات المتكرّرة لحدودنا الجويّة والبريّة والبحريّة... تركنا بيتنا رغمًا عنّا في عدوان تمّوز، وتشتّتت أسرتنا، وكأنّ الوضع آنذاك لم يكفِ لترهيبنا نفسيًّا كلّ ثانية.
مشاهد الحرب تلازمني أنّى ذهبت. كلّما حاولت طردها عادت لتحتلّ أفكاري. وبالرغم من أنّي هجرت جوّ المعارك منذ أكثر من عام، لكنّ الحرب تسلّلت إلى حقيبة سفري. ربّما قدّر لنا - نحن الجنوبيّون - أن تتّصل أرحامنا بالأسلاك الشائكة. حتّى أنّ أختي الأصغر سُمّيت «سلام» على نيّة الهدنة بعد «عناقيد الغضب» في نيسان 1996.
هذه الحكايا وغيرها، كانت في صلب الروتين اليوميّ الذي عهدته في لبنان. لكنّي لم أعِ يومًا أنّ ذكرياتي الأليمة هذه، والتي يشاطرني إيّاها أفراد العائلة وأولاد حارتي ورفاق المدرسة لم يقاسها الجميع. فخارج تلك الحلقة المجتمعيّة الضيّقة، كثيرون لم يكن عليهم حزم حقائبهم وترك ألعابهم المفضّلة وحدها تتفرّج على القنابل المضيئة ليلًا في سماء الحديقة. ولم يكن عليهم ترك شجرة الصنوبر التي كانوا يتفيؤون بظلّها، تتمايل وحيدة إنْ بقيت حيّة ترزق - على هدير القصف العشوائيّ المجاور.
قصصنا تلك لا تمسّ صديقتي الأفغانيّة أو زميلتي السعوديّة المنشأ أو حتّى صديقي اللبنانيّ في دبي، وإن كانوا سمعوا بها في نشرات الأخبار. ذُهل أحدهم عندما رويت له الأسبوع الماضي أحداثًا حملتها معي من الطفولة. لكنّ ذهولي كان أعظم لإدراكي، متأخّرة، أنّني فتاة بذاكرة حرب إسرائيلية، وأنّ آخرين على أرض الوطن بالرغم من تعاطفهم معنا، لا يعرفون ما معنى أن تغتال قنبلة عنقوديّة أوّل صديق لهم في صفّ الروضة بينما كان يلهو في الحديقة مع أخيه الأكبر.
رنا داوود/شباب السفير
27-11-2013
بتوقيت بيروت