لم يكن مشروع الوزير والشاعر الفنزويلي لويس ألبيرتو ماتشادو إنشاء وزارة لتعليم الذكاء في بلاده ناشئاً عن خيال شعري، بل عن حقيقة علمية واقعة: فإذا كان الذكاء هو القدرة على التقاط الروابط القائمة بين الأشياء والموجودات، حتى ولو كانت غير منظورة، تُصبح هذه القدرة قابلة للاكتساب بالتدريب والتعليم، وتُصبح جملة الأنشطة المولجة بهذا التعليم مهمة وطنية يتولاها جهاز كفيل بالنهوض به، كسائر أجهزة الوزارات التي تضطلع بالمهمات الوطنية الأخرى: وزارة للذكاء تنقله من كونه معطى طبيعياً، وفطرة وموهبة، ليصبح مهارةً معممة، وثروة اجتماعية هائلة، ما دام أن الإنسان هو أثمن رأسمال.
محطَّ استغراب واستهجان ملحوظين في بلاده وبين مستشاريه، كان إعلان الرئيس الفنزويلي الأسبق، لويس هيريرا كامبينس، قراره إنشاء وزارة للذكاء البشري، وذلك في خطوة هي الأولى من نوعها، ليس على مستوى فنزويلا فحسب، وإنما على مستوى دول العالم وحكوماتها أجمع.
كان ذلك في العام 1978، وفي مستهل ولاية الرئيس الفنزويلي، الذي يوصف بأنه رائد مسيرة العلمولوجيا والمعرفة بلا حدود، في أميركا اللاتينية. فكان أن كلّف صديقه، الشاعر الفنزويلي لويس ألبيرتو ماتشادو، بأعباء الاضطلاع بهكذا وزارة، انطلاقاً من أن هذا الأخير كان صاحب نظرية تقول بتعليم الذكاء، وتطوير التفكير. كما يؤكد ماتشادو بأن “الذكاء مساوٍ لتعليم التفكير.. وبما أن التفكير مهارة، فإنه قابل للتعلّم والاكتساب، وتعلّم التفكير بالتالي هو تعلّم الذكاء”.
وفي رأي الوزير ماتشادو، يجدر بالمعنيين جميعاً بهذه النظرية، أن يحدّدوا مسبقاً ماهية المعرفة المختلفة والمتجاوزة، التي يمكن أن تورَّث للأجيال؟ وأي مستقبل علمي يمكن أن يستشرفوا آفاقه، ويشاركوا عملياً فيه؟ لأن جميع الطلبة، سيكون في مكنتهم سرد مخزوناتهم العقلية والحدسية، في ظل النظام التربوي الذكائي المفتوح، والمنوي تكريسه بطبيعة الحال. ومهما كان حجم التفجّر السكاني هائلاً في العالم، فإن معادلة أن “الإنسان الذكي هو أثمن رأسمال”، ستبقى وتتعزز أكثر، في رأي الوزير ماتشادو، فقط لأنها في كنف استراتيجية التعليم المفجّر للذكاء الآدمي.
ولا يفوتنا هنا أن ماتشادو، كان ينطلق من مسلّمة أن المجتمع الإنساني ينماز، بمحض طبيعته، عن المجتمع الحيواني، بكونه لا يسلك تلقائياً وفق صوت الغريزة وإنما وفق “علبة” العقل، التي هي بحجم الكون، خصوصاً إذا ما قيّض لعوالم هذه “العلبة”، أن تنفجر التفجّر الإيجابي المطلوب لخير البشرية ومصيرها.
والإنسان بعد، في رأي الوزير ماتشادو، هو كائن المغايرة بالضرورة. إنه في كل لحظة، عبارة عن حالة مختلفة، أو زمن مختلف. والتأويلي فيه، يختلف عن المعرفي، وإن كان ينطلق منه، أو يستمدّه، مشاركاَ في ابتعاثه وتطويره. وذلك بما هو مطلق ذاته الذكية دوماً. فالحقيقة العلمية، وإن كانت بنت معادلاتها المنهجية المحايدة، إلا أنه لا يمكن لها أيضاً أن تكون، إلاّ في صلب خضمّ مبدعها الذكي، (سواء أكان فرداً أم جماعة) والمحرك الاستثنائي لأنساقها المتفجرة باستمرار. والذكي هنا، هو الفرد المهموم باستطلاع العالم، والحضور العلمي، أو الإبداعي المتفرّد فيه.
مدارس خاصة بالذكاء منذ الصغر
من ضمن مشروعه الرائد في نشر تعليم الذكاء، وتطوير التفكير، ينطلق الوزير لويس ماتشادو من ضرورة إنشاء مدارس خاصة بالذكاء منذ الصغر، أو في أضعف الإيمان، البدء من خلخلة أنظمة المدارس التقليدية القائمة اليوم، لمصلحة قيام المدرسة البديلة ذات المنهج الواحد، المتعدد، المتمثل بتعليم التفكير الإبداعي عبر مراحله، التي تبدأ، بالتأكيد، من الابتدائي، لكنها لا تنتهي بالجامعي العالي، وإنما تمتد مدى الحياة، أي يتحول طالب المدرسة البديلة هنا، إلى حال من الإقامة الدائمة في قلب فضاء المعرفة، وأسئلته العلمية المفتوحة على المفاجآت.. وحال هذا الطالب هنا، هي تماماً مثل حاله مع الأفق، كلما أوغل به، اكتشف أفقاً آخر، بل آفاقاً أخرى متوالية.
هكذا، فمدرسة الذكاء، أو تطوير التفكير الإبداعي، هي التي يجب أن تسود في عرف الوزير ماتشادو، انطلاقاً من أن الذكاء، وكما يؤكد ذلك أيضاً كبار علماء التربية في العالم (جان بياجيه، ألكسندرو روشكا، لويس دورمال، بيار سابون، راجو جاشنمال، فاروق أصلحي، مريانا مجيب الله.. إلخ) هو حق طبيعي كامن في الجميع، حباه الله لكل فرد، واستطراداً لكل جماعة.. وأن الإبداع بالتالي يمكن أن يكون جماعياً، وليس فردياً، كما هو سائد، خطأً أو إهمالاً أو تجاوزاً.. أو استطراداً، بالرهان الكيفي الاعتباطي على عامل الزمن و”حلوله السحرية”.
ومن غير المشكوك فيه عند ماتشادو، أن الذكاء ليس عاملاً وراثياً، أو عرقياً، يقتصر على فرد من دون آخر، أو شعب من دون شعب آخر، وإنما الإنسان في المحصلة، هو ابن البيئة، أو الظرف المكاني والزماني، الذي يعيش فيه. فإذا نشأ في بيئة متخلفة، أو غير نامية، فإنه سيكون على صورتها، وإذا نشأ في بيئة اجتماعية متطورة، نامية وذكية، فإنه بالضرورة سيجد ما يؤهله ليكون ذكياً ومبدعاً. وتركيبة الدماغ البشري هي واحدة بطبيعتها، لم تتغير، كما يقول ماتشادو، “منذ نهاية العصر الحجري إلى اليوم”.
وإذا كان الذكاء، هكذا ابن بيئته الاجتماعية، فمعنى ذلك أنه “بالإمكان تعلّمه، بل وتطويره، طالما هو حال اكتساب من المحيط، وليس غريزة، أو فطرة".
تأثير كارل ساغان على ماتشادو
من جهة أخرى، أفادنا د. أنس ذوقان أبو المنى ( فنزويلي من أصل لبناني، ومن مواليد العاصمة كاراكاس في العام 1947)، وهو من الذين عرفوا الوزير لويس البرتو ماتشادو عن قرب، بأن آليات الدفع بمشروع تعليم الذكاء، وفن التفكير العلمي المتجاوز في فنزويلا، نجحت بحدود معيّنة، لكنها لم تكمل دورة تراكمها التاريخي المطلوب، لتتحول إلى أنموذج يسطع في العالم، وذلك على الرغم من الجهود الماراتونية، الذكية والمضنية، التي بذلها الوزير ماتشادو، الذي لم تتجاوز فترة عمله على رأس وزارته، الست سنوات، وهي فترة قصيرة زمنياً، لبلورة مثل هكذا مشروع ضخم، ينبغي أن تتصدّى له الأمم المتحدة بمؤسساتها كافة، وكذلك الدول الغنية المقتدرة أيضاً.
من د. أبو المنى، عرفنا أن صديقه الوزير ماتشادو، وفي ما خصّ نظريته حول تعليم الذكاء وتطوير التفكير، كان متأثراً جداً بالعالم الفيزيائي الأميركي الراحل كارل ساغان (1934-1996). فهذا الأخير، كان ينطلق من كسر هيبة العلم، بالمزيد من الإيغال فيه، وتبسيطه للعامة، بل ومحاولة إشراكهم في معادلاته الرياضية، خصوصاً علم الفيزياء الفلكية، الذي كان ساغان مختصّاً فيه. كما كان مختصّاً أيضاً بالمخلوقات الذكية داخل الكرة الأرضية، وفي الفضاء الكوني. وقد عانى ساغان من خلل معيّن في دماغه، قام إثره بزرع نخاع عظمي ثلاث مرات.
وكان، بالإضافة إلى كونه أستاذاً للفيزياء الكونية في جامعة هارفرد، روائياً ومؤلفاً لكتب علمية عدّة، بينها كتاب مهمّ حول ذكاء الدماغ وتطوره، عنوانه: “وحوش جنة عدن” (نقله إلى العربية الراحل د. حسن قبيسي). هذا الكتاب كان قبلة الوزير الفنزويلي ماتشادو، وشكّل له أحد مصادره العلمية الغنية، خصوصاً عندما ألّف كتابه: “الذكاء حق طبيعي لكل فرد”.
ومن كتاب كارل ساغان، نعرف أن الدماغ البشري، على طبيعة تعقيدات تفاصيله، إلا أنه بالإمكان تعلّمها، واستيعاب دورة أسرارها، شريطة الدأب العلمي المتواصل في إطارها. وأنه بإمكاننا أن نتوصل كبشر ذات يوم، إلى أن نضع في الدماغ، سلسلة من القطع المعرفية والذهنية البديلة، تكون للوعي بمثابة النظارات للعينين. فهذا من شأنه أن يندرج في روحية التطور الغريني للدماغ. كما أن من شأنه أن يكون أقل تكلفة وصعوبة، من محاولة إعادة النظر في تركيب الدماغ الحالي. هكذا، قد تتوافر لدينا ذات يوم، قطع إعلامية صغيرة، مزروعة في دماغنا بعمليات جراحية وقابلة للتغيير، أو مطاريف إشعاعية، تتيح لنا أن نحصّل معرفة سريعة، سلسة ومحكمة.
وإذا كان بالإمكان، وإن على نحو ما، تعلّم كيفية عمل، وتطور ذكاء الكائنات الأرضية، من إنسان، ومخلوقات برية وبحرية أخرى، كالقردة، وسمك المورميريد.. مثالاً لا حصراً، فإن ذكاء الآلات، “أمر لا بدّ من التسليم بأنه حقق خطوات جبارة للإنسانية حتى الآن، وإننا معه بصدد المزيد من التطورات العلمية في ميادين مختلفة، وفي ذلك ما يشكل دليلاً ساطعاً على لطافة المادة ودقة القوانين الطبيعية”.
غير أن هذا كلّه، لا يعني في رأي ساغان وماتشادو، على الإطلاق، أن ذكاء الآلات وسائر النواظيم الدقيقة، سيكون بوسعها في المستقبل القريب، أن تعرب عن إبداع بشري، أو عن رهافة، أو حساسية إنسانية طبيعية.
ويعترف كارل ساغان، كعالم فيزياء فلكية بأنه، على الرغم من كلّ ما يقال عن الأجسام الطائرة غير محدّدة الهوية، وعن رواد فضاء هبطوا وعبروا، فليس برأيه “ثمة دليل جدي على أننا تلقينا زيارات منهم”.
غير أن ساغان يلفت من ناحية أخرى، وفي إطار كلامه على كائنات ذكية غير أرضية، خصوصاً خارج النظام الشمسي، قائلاً: “إذا واتانا الحظ، وأقمنا صلة مع بعض تلك الكائنات المختلفة عنا، فإنني أعتقد أننا سنجد القسم الأعظم من تركيبها الحيوي والنفسي والاجتماعي، على جانب كبير من الغرابة والغموض. لكنني أعتقد أننا لن نألو جهداً كبيراً في التفاهم معها على جوانب أبسط من ذلك، كالفلك والفيزياء والكيمياء، وربما الرياضيات”.
إذن، الذكاء وتعلّمه. الدماغ وإمكانية الكشف عن المزيد من عمل أسراره، وعقد مفاتيحها الدقيقة والحساسة للغاية.. كلها أمور قيد التداول العلمي المفتوح بالتأكيد. وهي تستأهل لأجلها، تكرار تأسيس وزارات خاصة بالذكاء، وتطوير التفكير في العالم، حتى وإن بتسمية مختلفة، كما حصل في فنزويلا نفسها، حيث تغيّر مصطلح “وزير ذكاء”، ليصير:”المفوض الأول لرئيس الجمهورية لتطوير الذكاء”.
أحمد فرحات/مؤسسة الفكر العربي
بتوقيت بيروت