حينما يموت الإنسان ينقطع عمله ويتوقف كماله، فقد انتهى بموته وقت الزرع، وها هو يقبل على وقت الحصاد، لكن الله تعالى برحمته جعل استثناء لتكامل الإنسان بعد الموت من خلال نوعين من الأعمال ترفده في قبره بروافد تنفعه رقيّاَ وتكاملاً فيه وهما: آثار الميت في حياته، وهدايا المؤمنين له.
آثار الميت في حياته
ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
فالعلم كالكتاب الذي يتركه ينتفع به الآخرون.
والصدقة الجارية كالمسجد يساهم في بنائه.
أما الولد الصالح فهو كذلك الولد الذي غيّر مصير والده في عالم البرزخ، كما ورد في قصة نبي الله عيسى عليه السلام الذي مرًّ بقبر يعذب صاحبه، ثم مرَّ به من قابل فإذا ليس يعذب فقال: "يا رب مررت بهذا القبر عام الأول فكان صاحبه يعذب، ثم مررت به العام فإذا هو ليس يعذب، فأوحى الله إليه: يا روح الله، أدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً، وآوى يتيماً، ً فغفرت له بما فعله ابنه".
وقد ورد في الأحاديث أن الولد العاقّ بوالديه يمكن
أن يتحول إلى بارٍّ بهما من خلال الأعمال التي يقوم بها لأجلهما بعد موتهما فعن
الإمام الصادق عليه السلام: "يكون الرجل عاقاً
لوالديه في حياتهما، فيصوم عنهما بعد موتهما، ويصلي عنهما، ويقضي عنهما الدين، فلا
يزال كذلك حتى يكتب باراً بهما، وإنه ليكون باراً بهما في حياتهما، فإذا ماتا لا
يقضي دينهما، ولا يبرّهما بوجهٍ من وجوه البر، فلا يزال كذلك حتى يكتب عاقاً".
وحول نفس مضمون الحديث النبوي السابق ورد عن معاوية
بن عمار أنه قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما يلحق الرجل بعد موته؟ فقال: "سنّة
يعمل بها بعد موته فيكون له مثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، والصدقة
الجارية تجري من بعده، والولد الطيّب يدعو لوالديه بعد موتهما، ويحجّ ويتصدّق
ويعتق عنهما ويصلّي ويصوم عنهما، فقلت: أُشركهما في حجّتي؟ قال: نعم".
هدايا المؤمنين للميت
من رحمة الله تعالى للميت
أنه فتح له رافداً من خلال الأعمال التي يهديها له أهل الإيمان، فقد ورد عن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لأصحابه: "أهدوا لموتاكم.
فسألوا يا رسول الله، وما هدية الأموات؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم الصدقة
والدعاء، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن أرواح المؤمنين تأتي كل جمعة إلى
السماء الدنيا بحذاء دورهم وبيوتهم، ينادي كل واحد منهم بصوت حزين: يا أهلي، ويا
ولدي، ويا أبي، ويا أمي، وأقربائي، أعطفوا علينا يرحمكم الله بالذي كان في أيدينا،
والويل والحساب علينا، والمنفعة لغيرنا، وينادي كل واحد منهم إلى أقربائه: اعطفوا
علينا بدرهم، برغيف، أو بكسوة، يكسكم الله من لباس الجنة".
ثم بكى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبكى أصحابه،
فلم يستطع أن يتكلم من كثرة بكائه، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: "أولئك
إخوانكم في الدين فصاروا تراباً رميماً بعد السرور والنعيم، فينادون بالويل
والثبور على أنفسهم، يقولون: يا ويلنا، لو أنفقنا ما في أيدينا في طاعة الله
ورضائه، ما كنا نحتاج إليكم، فيرجعون بحسرة وندامة وينادون: أسرعوا صدقة الأموات".
وعن "لب اللباب" للرواندي: إن الموتى
يأتون في كل جمعة من شهر رمضان فيقفون وينادي كل واحد منهم بصوت حزين باكياً: "يا
أهلاه، ويا ولداه، ويا قرابتاه، إعطفوا علينا بشيء يرحمكم الله، واذكرونا ولا
تنسونا بالدعاء، وارحموا علينا، وعلى غربتنا، فإنا قد بقينا في سجن ضيق، وغمٍّ
طويل وشدة، فارحمونا، ولا تبخلوا بالدعاء والصدقة لنا، لعل الله يرحمنا قبل أن
تكونوا مثلنا، فواحسرتاه قد كنا قادرين مثل ما أنتم قادرون، فيا عباد الله، اسمعوا
كلامنا ولا تنسونا، فإنكم ستعلمون غداً فإن الفضول التي في أيديكم كانت في أيدينا،
فكنا لا ننفق في طاعة الله، ومنعنا عن الحق، فصار وبالاً علينا، ومنفعة لغيرنا،
فاعطفوا علينا بدرهم أو رغيف أو بكسوة، ثم ينادون: "ما أسرع ما تبكون على
أنفسكم، ولا ينفعكم كما نحن نبكي، ولا ينفعنا فاجتهدوا قبل أن تكونوا مثلنا".
قال العلامة المجلسي في زاد المعاد: يجب أن لا يُنسى
الأموات لأنهم عاجزون عن القيام بأعمال الخير.. وهم يأملون أن يصلهم شيء من
أولادهم وأقاربهم وإخوانهم المؤمنين، وينتظرون ذلك بفارغ الصبر، خصوصاً في الدعاء
في صلاة الليل، وبعد صلاة الفريضة، وفي المشاهد المشرفة، وينبغي تخصيص الأب والأم
والاهتمام بالدعاء لهما والأعمال الصالحة عنهما أكثر من غيرهما.
سلام الله تعالى على الإمام الصادق عليه السلام الذي ورد
أنه كان يصلي في كل ليلة لأولاده وفي كل يوم لأبويه ركعتين يقرأ بعد الحمد في
الركعة الأولى "إنا أنزلناه"، وفي الركعة الثانية "إنا أعطيناك
الكوثر" وهو الذي علمنا أن من عمل من المسلمين عن ميتٍ عملاً صالحاً أضعف له
أجره ونفع الله به الميت.
ثمار هدايا المؤمنين للميت
أ- روي عن الإمام الصادق
عليه السلام أن أحدهم سأله: يصلَّى عن الميت؟ فقال، نعم حتى أنه ليكون في ضيق
فيوسع الله عليه ذلك الضيق، ثم يؤتى فيقال له: خفف عنك هذا الضيق بصلاة فلان أخيك
عنك، ثم سأله: فأشركُ بين رجلين في ركعتين؟ فقال عليه السلام، نعم، ثم قال: "إن
الميت ليفرح بالترحم عليه، والاستغفار له كما يفرح الحي بالهدية تهدى إليه.
ب- وعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، "ما
تصدقت لميت فيأخذها ملك الموت في طبق من نور ساطع، ضوؤها يبلغ سبع سماوات، ثم يقوم
على شفير الخندق (أي القبر)، فينادي: السلام عليكم يا أهل القبور، أهلكم أهدوا
إليكم بهذه الهدية، فيأخذها ويدخل به في قبره، فتوسع عليه مضاجعه".
ح- وفي الحديث النبوي الشريف: "إذا تصدق الرجل بنية
الميت أمر الله جبرئيل أن يحمل إلى قبره سبعين ألف ملك، في يد كل ملك طبق فيحملون
إلى قبره ويقول: السلام عليك يا ولي الله، هذه هدية فلان بن فلان إليك، فيتلألأ
قبره".
عوائد الهدايا على الحيّ المُهدي
إضافة إلى تلك البركات والرحمات الربانية على الميت، فإن من يهدي الموتى بأعمال الخير يثيبه الله تعالى ويجزيه بأفضل جزاء.
أ- فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "يدخل على الميت في قبره الصلاة والصوم والحج والصدقة والبر والدعاء، ويكتب أجره للذي يفعله وللميت".
ب- في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام: "من عمل من المسلمين عن ميت عملاً صالحاً أضعف له أجره، ونفع الله به الميت".
ج- وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا من عطف لميت بصدقة فله عند الله من الأجر ويكون يوم القيامة في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظل العرش"...
ختام الكلام
وختام الكلام بموعظة للإمام زين العابدين عليه السلام قال فيها: "أيها الناس، اتقوا الله، واعلموا أنكم إليه ترجعون، فتجد كل نفس ما عملت في هذه الدنيا من خيرٍ محضراً، وما عملت من سوء، تودّ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً، ويحذركم الله نفسه. ويحك ابن آدم الغافل وليس بمغفول عنه، ابن آدم، إن أجلك أسرع شيء إليك، قد أقبل نحوك حثيثاً يطلبك ويوشك أن يدركك، وكأن قد أُوفيت أجلك، وقبض الملك روحك، وصرت إلى منزل وحيداً، فردّ إليك فيه روحك، واقتحم عليك فيه ملكاك: منكر ونكير لمساءلتك وشديد امتحانك، ألا وإن أول ما يسألانك عن ربك الذي كنت تعبده، وعن نبيك الذي أرسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه، وعن إمامك الذي كنت تتولاه، ثم عن عمرك في ما أفنيته؟ ومالك من أين اكتسبته؟ وفي ما أتلفته؟ فخذ حذرك وانظر لنفسك، وأعدَّ للجواب قبل الامتحان والمساءلة والاختبار، فإن تك مؤمناً تقياً عارفاً بدينك متبعاً للصادقين موالياً لأولياء الله لقّاك الله حجتك، وأنطق لسانك بالصواب، فأحسنت الجواب، فبشّرت بالجنة والرضوان من الله والخيرات الحسان، واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان، وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك، ودحضت حجتك، وعميت عن الجواب، وبشرت بالنار، واستقبلتك ملائكة العذاب بنزل من حميم وتصلية جحيم. فاعلم ابن آدم: إن من وراء هذا ما هو أعظم وأفظع وأوجع للقلوب يوم القيامة، ذلك يوم مجموع له الناس، وذلك يوم مشهود...".
المصدر: شبكة المعارف الإسلامية
بتوقيت بيروت