من الصعب أن أقدّم شرحًا اجماليًّا لصفات القرآن, لذا سوف أعرض شرحًا لبعض هذه الصفات ممّا لها آثار اجتماعيّة أو أخلاقيّة تاركًا البعض الآخر إلى التفاسير المطوّلة في موارد الآيات التي ذكرتها, وإنّما أذكر هذه الأوصاف ليس فقط للتعرّف على القرآن بل للتعرّف على أهل البيت عليهم السلام لأنّهم عدل الكتاب وهما صنوان لايفترقان. فإذا كان القرآن ينطق بالحقّ فإنّهم مع الحقّ والحقّ معهم وهو لا يأتيه الباطل وهم معصومون وهو الكتاب قيمومة وسلطنة على الناس وهم أئمّتهم وهكذا:
مبارك
أي كثير البركة وهو كذلك من عدّة جهات، فهو مبارك في محل صدوره لأنّه نازل من الله تبارك وتعالى المتفضّل المنّان مفيض النعم التي لاحصر لها ولا عدّ, ومبارك في محلّ نزوله وهو قلب رسول الله صلّى الله عليه وآله، الرحيم الكريم الذي أُرسل رحمة للعالمين، ومبارك في آثاره ففيه الهداية والخير والسعادة في الدنيا والآخرة وفيه نظام حياة البشريّة وقوامها وحفظ كيانها وفيه السلام والطمأنينة, ومبارك في حجمة فهو كتاب واحد إلّا أنّ جميع أرباب العلوم والمعرفة يغترفون منه وهو معين لا ينضب. فتجد الأصوليّ والفقيه والنحويّ والأديب والمفكّر والسياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والطبيب والمشرّع والحاكم يأخذون منه ويستدلّون بآياته ومع ذلك يبقى خالدًا معطاءً، وهذا دليل نزوله من الله فإنّ هذا كلّه ممّا لا يمكن لكتب عديدة أن تضمّه وتحويه وهو مبارك بعدد الذين اهتدوا على يديه وتنوّرت قلوبهم وعقولهم ببركته.
عزيز
أي يصعب مناله،
فإنّه في كتاب مكنون وحقائقه العليا محفوظة في اللوح المحفوظ وما هذه الكلمات إلّا
أمثال لتقريب تلك المعاني إلى أذهان البشر المستأنسة بالماديّات والتي لا تسمو
لتنال تلك الحقائق, نعم, يمسّها ويصل إليها ويعيها المطهّرون الذين أذهب الله عنهم
الرجس وطهّرهم تطهيرًا وهم آل محمّد صلّى الله عليه وآله، وقد سمعت أمير المؤمنين
عليه السلام يقول: إنّنا لا نملك علمًا أكثر من فهم لهذا الكتاب, وهو عزيز بمعنى
يندر وجود مثله وهو كذلك لأنّه كلام من ليس كمثله شيء, وهو عزيز أي ممتنع عن أن
ينال بسوء, فيكون بمعنى الآية الشريفة: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ )[2]
, وهو عزيز بمعنى أنّه قاهر وغالب ومتسلّط لأنّه كلمة الله وكلمة الله هي العليا
فهو يعلو ولا يعلى عليه وموقعه دائمًا التسلّط والحاكميّة على العباد والتصرّف في
شؤونهم, وهوعزيز بمعنى مطلوب كما قيل كلّ موجود مملول وكلّ مفقود مطلوب, وهذا
الكتاب مطلوب كلّ من أراد الوصول إلى الله تبارك وتعالى.
مجيد
قال الراغب في المفردات: المجد: السعة في الكرم والجلال وأصله في قولهم (مجدت الأبل) إذا حصلت في مرعى كثير واسع فوصف القرآن بالمجيد لكثرة ما يتضمّن من المكارم الدنيويّة والآخرويّة وعلى هذا وصفه بالكريم بقوله تعالى : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ )[3] ، لسعة فيضه وكثرة جوده, وقد أشرنا في شرح صفة (مبارك) إلى هذه الآثار الواسعة.
قيَّمًا
من القيّمومة, فهذا الكتاب قيّم على العباد ليسوقهم ويقودهم ويدلّهم على ما يصلحهم ويهيّيء لهم كلّ أسباب السعادة في الدنيا والآخرة كما يفعل القيّم على الأسرة أو على المجتمع, ومنهج القرآن قيّم على جميع المناهج الأخرى سواء على مستوى العقائد أو التشريعات وهو مقدّم عليها وقائد لها وهي تابعة وخاضعة ومحكومة له, فالقيّمومة العليا في هذه الحياة للقرآن إن أرادت البشريّة خيرها وسعادتها لا ما فعلته بالابتعاد عن منهج القرآن وتحكيم عقول البشر القاصرة الخاضعة غالبًا لمنطق الأهواء والمصالح وقد مهّدت الآية لهذه القيّمومة بأن وصفته أنّه لا عوج فيه ولا نقص ولاخلل ولا قصور, فقال تعالى : ( وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا )[4] . فمن شروط القيّمومة على البشر من يريد تكميل غيره أن يكون كاملًا في نفسه فإنّ فاقد الشيء لا يعطيه كما قالوا, ومن ضرورة القيّمومة على البشر أن يتصدّى لها من لا نقص فيه ولاخلل ولا قصور ولم يتحقّق ذلك إلّا في هذا الكتاب الكريم وعدله الثقل الأصغر أهل بيت النبوّة وكلّ ما سواهم لا حقّ له في إمامة المجتمع والقيّمومة عليه, وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة أوجبت تقديم الكتاب والعترة.
( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ) [5]. أي ضيّقة وهذه صفة كلّ من يعرض عن ذكر الله تبارك وتعالى ويكون مقطوع الصلة به سبحانه ويعيش بعيدًا عن القرآن الكريم فإنّه يكون في ضيق وتعاسة وألم لأنّه انسلخ من رحمة الله الواسعة ووقع فريسة الأهواء والمطامع والشهوات التي لا تقف عند حدّ فهو في رعب خشية الموت فيخسر الدنيا التي هي همّه وما له في الآخرة من نصيب, ويعيش الحرص على ما في يده خشية الفوت, ويعيش التعب لأنّه يلهث وراء سراب, فما يحقّق شيئًا يظن أنّ فيه سعادته حتّى يكتشف أنّه متوهّم فيسعى إلى غيره, فمثلًا يظن أنّ سعادته في المال حتّى جمع المليارات فما تحقّقت سعادته, فيظن أنّها في الدور الفارهة فيبني منها ما لا عين رأت فلا تحقّق سعادته, فيظن أنّها في النساء فيستمتع بما شاء منهنّ ثمّ يجد نفسه قد وصل إلى طريق مسدود فينطبق عليه قوله تعالى: ( فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي) ، والقمر كناية عن المال فظنّ أنّه ربّه وكافل سعادته (فَلَمَّا أَفَلَ ) وفشل في تحقيقها له (قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ) ، (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً ) ، وهي كناية عن أمور دنيويّة أخرى (قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ ) وهذا الذي يحقّق لي السعادة وطمأنينة القلب لأنّه (هَذَآ أَكْبَرُ ) ، وأهمّ وأعظم تأثيرًا (فَلَمَّا أَفَلَ ) وفشل هذا الربّ الجديد في تحقيق السعادة ( قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ )وهؤلاء الأرباب الناقصين الذين لا يملكون لأنفسهم فضلًا عن غيرهم ضرًا ولا نفعًا, وعندئذٍ إن كان مخلصًا في البحث عن الحقيقة كتبت له الهداية وقال مقالة المؤمنين: (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )[6] ، وإن لم يكن كذلك كتبت عليه الشقاوة وكان جوابه: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ )[7] .
وهكذا يبقى في شقاء ونكد وضيق بين مطرقة الموت الذي يمكن أن يختطّفه في أيّة لحظة, وسندان الحرص والطمع ( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ)[8] ، وأنت ترى أنّ أكثر حالات الانتحار هي في الدول المرفّهة اقتصاديًّا والتي تعيش التخمة ومنشأه هذا النكد والفتك الذي يعيشه بسبب الخواء الروحيّ.
( قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )[9] ، فهو نور لأنّه يشرق أوّلًا في قلب المؤمن فيطهّره من أدران المعاصي وكدورات الذنوب ويجلي صفحته ليكون مستعدًا لتجليات الحقّ فيه وهو نور للأمّة وللمجتمع يرشدها إلى النظام الذي يكفل سعادتها.
ومن لطيف التعبير القرآنيّ أنّه جعل لفظ النور مفردًا والظلمات جمعًا لأنّ طريق الحقّ واحد لا يتعدّد وإن تعدّدت سبله ومصاديقه. قال تعالى : (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ )[10] ، بينما الظلمات عديدة والآلهة التي تصدّ عن الله تبارك وتعالى كثيرة.
ومن
آثار القرآن وبركاته أنّه يهدي من اتبع رضوان الله تعالى سبل السلام وأوّل سلام
ينعم به هو سلام النفس وطمأنينة القلب وصفاء الذهن ( أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ
الْقُلُوبُ )[11]
، ثمّ السلام داخل العائلة والأسرة التي تقوم على أساس الإسلام وتعاليم القرآن (وَمِنْ آيَاتِهِ
أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ
بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ ) [12]
، ثمّ السلام بين أفراد المجتمع عندما تسودهم آداب الإسلام (فَأَصْبَحْتُم
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا )[13]
، ( مُّحَمَّدٌ
رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء
بَيْنَهُمْ )[14]، (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ
كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ )[15]
.
قول ثقيل
والثقل للمعنى الذي يحمله القول أو اللفظ هو ثقيل على النفس لأنّه يمسك بزمام شهواتها فلا يطلق لها العنان وإنّما يهذبها ويقومها ويقودها, وهو ثقيل على العقل لما يتضمّنه من أسرار ودقائق يصعب تحمّلها على العقول الجبّارة وثقيل على الروح لما فيه من تكاليف شاقة وتربية مكثفة وإليه أشار صلّى الله عليه وآله شيبتني هود والواقعة لأنّ فيها فاستقم كما أمرت وهو صلّى الله عليه وآله يعرف ثقل هذا الأمر.
ومنشأ ثقله صدوره من الله العظيم, لذا تنقل كتب السير حالته صلّى الله عليه وآله عند نزول الوحي عليه وقد وصف القرآن ثقله بقوله: ( لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )[16] .
وهو ثقيل لما يصيب حامله والساعي إلى إقامته في المجتمع من محن وبلايا وصعوبات. قال تعالى: (كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ )[17] لذلك أمر صلّى الله عليه وآله بقيام الليل والتعلّق بالله تبارك وتعالى وتعميق الصلة به استعدادًا لتلقّي هذا القول الثقيل والمسؤوليّة العظيمة وقد وعده تعالى بتحصيل هذه النتائج, قال تعالى: ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا )[18] .
موعظة وشفاء وهدى ورحمة
واختصر هنا ما ذكره السيّد الطباطبائي (قدس سره) في تفسير الآية: قال الراغب في المفردات: الوعظ: زجر مقترن بتخويف. وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرقّ له القلب وشفاء الصدور كناية عن ذهاب ما فيها من الصفات الروحيّة الخبيثة التي تجلب إلى الإنسان الشقاء وتنغّص عيشته السعيدة وتحرمه خير الدنيا والآخرة, وإنّما عبّر بالصدور لأنّ الناس لما وجدوا القلب في الصدر وهم يرون الإنسان إنّما يدرك ما يدرك بقلبه وبه يعقل الأمور ويحبّ ويبغض ويريد ويكره ويشتاق ويرجو ويتمنّى عدوًّا الصدر خزانة لما في القلب من أسراره والصفات الروحيّة التي في باطن الإنسان من فضائل ورذائل.
أقول : وتدلّ الأحاديث على أنّ القرآن شفاء حتّى من الأمراض البدنيّة بل في بعضها أنّ سورة الفاتحة لو قرأت سبعين مرّة على ميت فقام حيًّا لم يكن ذلك عجبًا.
والرحمة تأثّر خاصّ في القلب على مشاهدة ضرّ أو نقص في الغير يبعث الراحم إلى جبر كسره وإتمام نقصه, وإذا نسبت إلى الله سبحانه كان بمعنى النتيجة دون أصل التأثّر لتنزهه تعالى عن ذلك فينطبق على مطلق عطيّته تعالى وإفاضته الوجود على خلقه.
أقول: هذا أحد الوجوه في شرح هذه الأسماء المباركة التي لا يمكن فهم نسبتها إلى الله تبارك وتعالى كما تنسب إلى المخلوقين.
وإذا أخذت هذه النعوت الأربعة التي عدّها الله سبحانه للقرآن في هذه الآية - أعني أنّه موعظة وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة - , وقيس بعضها إلى بعض ثمّ اعتبرت مع القرآن كانت الآية بيانًا جامعًا لعامّة أثره الطيّب الجميل وعمله الزاكي الطاهر الذي يرسمه في نفوس المؤمنين منذ أوّل ما يقرع أسماعهم إلى آخر ما يتمكّن من نفوسهم ويستقرّ في قلوبهم.
فإنّه يدركهم أوّل ما يدركهم وقد غشيتهم الغفلة وأحاطت بهم لجة الحيرة فأظلمت باطنهم بظلمات الشك والريب وأمرضت قلوبهم بأدواء الرذائل وكلّ صفة أو حالة رديئة خبيثة فيعظهم موعظة حسنة ينبهّهم بها من رقدة الغفلة, ويزجرهم عمّا بهم من سوء السريرة والأعمال السيّئة ويبعثهم نحو الخير والسعادة.
ثمّ يأخذ في تطهير سرّهم عن خبائث الصفات ولا يزال يزيل آفات العقول وأمراض القلوب واحدًا بعد آخر حتّى يأتي على آخرها.
ثمّ يدلّهم على المعارف الحقّة والأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة دلالة بلطف يرفعهم درجة بعد درجة وتقريبهم منزلة فمنزلة حتّى يستقروا في مستقرّ المقربين, ويفوزوا فوز المخلصين.
ثمّ يلبسهم لباس الرحمة وينزلهم دار الكرامة ويقعدهم على أريكة السعادة حتّى يلحقهم بالنبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا ويدخلهم في زمرة عباده المقرّبين في أعلى عليين.
فالقرآن
واعظ شاف لما في الصدور هاد إلى مستقيم الصراط مفيض للرحمة بإذن الله سبحانه,
وإنّما يعظ بما فيه ويشفي الصدور ويهدي ويبسط الرحمة بنفسه لا بأمر آخر فإنّه
السبب الموصل بين الله وبين خلقه فهو موعظة وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة
للمؤمنين.
الحياة في كنف القرآن
وقد جرّبت الحياة في كنف القرآن وعشت في رعايته سنين في ريعان الشباب كنت أختمه في السنة عشرين إلى خمس وعشرين مرّة حتّى خالط لحمي ودمي وفكري ولساني وقلبي وكنت مع تلاوتي له اقرأ بإمعان في تفسيرين مهمّين أجلّهما وأعترف لهما بالفضل في تكوين شخصيّتي العلميّة والفكريّة هما (الميزان) و (في ظلال القرآن) حتّى أكملتهما ولخّصت رؤوس أفكارهما حتّى أرجع إليهما باستمرار فتنقدح في ذهني تلك الأفكار وفي روحي وقلبي تلك اللحظات السعيدة.
فماذا وجدت في رحاب القرآن؟ وماذا سيجد من يعيش في رعاية القرآن؟ سيرى عظمة الله سبحانه تتجلّى في آياته وقوانينه وسننه وقدرته على كلّ شيء. فالأرض جمعيًا قبضته والسموات مطويات بيمينه والعزّة لله جميعًا والقوّة والملك له وحده فهو الذي يرث الأرض ومن عليها وإليه مرجع العباد وهو أقرب اليهم من حبل الوريد ويحول بين المرء وقلبه ولا يملك شيء لشيء نفعًا ولا ضرًّا إلّا بإذنه, فعندئذٍ يتصاغر أمام حامل القرآن كلّ ما سوى الله تبارك وتعالى مهما عظم ظاهرًا أو حاول أولياؤه وأتباعه تعظيمه والنفخ في صورته فإذا قدرة الله تلقف ما يأفكون فلا إرم ذات العماد ولا فرعون ذو الأوتاد ولا صاحب الكنوز التي تنوء مفاتيحه بالعصبة أولي القوّة. أمّا حامل القرآن فقوّته متّصلة بالله فلا يخشى ما سواه ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )[19] ، وعن أبي عبد الله أنّ قال: ((من خاف الله أخاف الله منه كل شيء))[20].
وعندئذٍ سترى أنّ هذه القوى الكبرى التي (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى[21] ) ، وقادرة على تحقيق كلّ ما تريد, وإذا بها تنهار وتذوب كما يذوب الملح في الماء بلا حرب ولا أيّ عدوّ ظاهر لكن الله ينبّئك عن الذي يقف وراء فنائهم ( فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ )[22] .
وسيرى وعد الله وطمأنينته للمؤمنين بأنّ العاقبة لهم ولكن بعد أن: (مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ )[23] ، وأن لا بدّ من الفتنة والابتلاء ليمحّص الله الذين آمنوا ( الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) [24] . وعندئذٍ يقرّ بال المؤمن مهما واجهته من صعوبة ومحنة لأنّه من سنّة الله في عباده فعليه ان يصدق في المواقف وسيجزي الله الصادقين ويهون الخطب عليه أنّه كلّه بعين الله سبحانك قال تعالى: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ) [25] ، ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[26]
وسيرى من علوّ الإيمان الذي يعمر قلبه والمعارف العليا التي يحملها إلى هذه البشريّة التائهة التي تلهث وراء السراب تعيش لأغراض زائفة وتمنّي نفسها بأمانٍ باطلة يزينها لهم أولياء الشيطان من مالٍ وجاهٍ وشهوات يتنافسون عليها ويتقاتلون على شيء لا يبقى لهم بل يكون وبالًا عليهم. يصنعون لأنفسهم آلهة يصطلحون على عبادتها وطاعتها وتقديم الولاء لها فيقيمون لها الطقوس والاحتفالات والمهرجانات ويذبحون من أجلها القرابين ليس من الحيوانيّة فقط بل البشريّة ويهدرون على أقدامها المليارات.
وسيرى أنّه ليس وحده حتّى يشعر بالضعف أو الذلّة أو الخضوع والاستسلام ولا أنّ ما يعانيه ويشاهده ويعيشه بدعًا من الحوادث ولا أنّ تجربته فريدة ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) [27] ، فإذن قد سبقه على هذا الخط أنبياء عظام وأولياء كرام وحملة رسالات ومصلحون وعباد صالحون عانوا أكثر ممّا عانى، وصبروا على أشدّ ما صبر عليه وواجهوا من مجتمعاتهم أعظم ممّا يواجه والصورة نفس الصورة قال تعالى: ( فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ )[28] ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )[29] .
وسيرى تكريم الله لخلقه حين خاطبهم بنفسه ووجّه إليهم كلامه مباشرة, الله العظيم خالق السموات والارض ذو الأسماء الحسنى يرسل إليهم بنفسه رسالة ويعهد إليهم بعهده, أي تكريم أعظم من هذا وأيّ تفضيل فوق هذا ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا )[30] فكيف يا ترى مشاعر الإنسان وهو يقرأ رسالة حبيبه بل الحبيب المطلق (إنّ القرأن عهد الله إلى خلقه فينبغي لكلّ مؤمن أن ينظر فيه).
وسيرى أنّ كلّ شيء في هذا الكون بقدر وحساب دقيق, قال تعالى: ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) [31] (وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) [32] ، ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ )[33] ، وكلّ المخلوقات أفراد ومجتمعات تجري وفق سنن ثابتة (سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ )[34] ، ( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ )[35] لا يستطيع أحد أن يخرج من هذا القانون الإلهيّ العظيم (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّة اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّة اللَّهِ تَحْوِيلًا )[36]فكيف يعبد الإنسان غيره تبارك وتعالى وهو لا يستطيع أن يخرج من قبضة سننه وقوانينه, فلا مجال للعب ولا العبث واللهو (رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلًا سُبْحَانَكَِ ) [37] ، ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ )[38] ، ( لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ )[39] ولا مجال للصدفة العمياء التي طالما تشدق بها الملحدون وضحكوا بها على عقول الناس ردحًا من السنين وأضلّوهم بها فتعسًا التابع والمتبوع فمن وراء خلق الإنسان هدف فلا بدّ أن يحيا من أجله ويكرّس كلّ طاقاته لتحقيقه وهو رضا الله تبارك وتعالى.
وسيجد في القرآن الوعد الإلهيّ بالامداد والقوّة الغيبيّة في كلّ موقف وشدّة ومأزق ومعركة مع النفس الأمّارة بالسوء أو الشيطان, وأنّ الله معه وكفى به ناصرًا ما دام هو مع الله قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) [40] وآيات كثيرة تخبر عن إنزال السكينة في قلوب المؤمنين والإمداد بالملائكة المسوّمين وغيرها.
وسيجد في كنف القرآن الطمآنينة قال تعالى: (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ )[41] ، وهدوء البال وشفاء الصدور والهدى والبركة وكلّ خير ممّا وصف القرآن به نفسه.
فإذا وجد حامل القرآن كلّ ذلك اشتدّت عزيمته وقوي قلبه وصلحت نفسه وازدادت همّته وظهرت حكمته وسيكون عندئذٍ مصدرًا للعطاء ومنبعًا للخير لنفسه وللمجتمع كما هو شان المصلحين العظام وعلى رأسهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام.
[1] سلسلة محاضرات ألقاها المدّعي العام للدفاع عن القرآن، سماحة آية الله الشيخ محمّد اليعقوبيّ ((دام ظله الوارف)) بمناسبة حلول العام الدراسيّ الجديد على طلبة الحوزة العلميّة الشريفة في النجف الأشرف بدأت بتاريخ 19 / محرم / 1422
[9] سورة المائدة، الآيتان 15 و16.
[13] سورة آل عمران، الآية 103.
[17] سورة الأعراف، الآيتان 1و 2.
[20] الشيخ هادي النجفيّ، موسوعة أحاديث أهل البيت (ع) (دار إحياء التراث العربي: بيروت، لبنان،2002م)، الجزء 9، الصفحة 395.
[24] سورة العنكبوت، الآيتان 1 و2.
[37] سورة آل عمران، الآية 191.
بتوقيت بيروت