منذ انطلقت الاحتجاجات الاجتماعية في "إسرائيل" قبل عامين ليس هناك حديث في أغلب الأوساط الاقتصادية والسياسية الإسرائيلية أكثر أهمية من الحديث عن تقليص ميزانية الدفاع. وتنبع هذه الأهمية من التقاء عاملين حاسمين وهما أن الأزمة الاقتصادية العالمية تترك ظلالها على "إسرائيل" من ناحية وأن الجيش هو المستهلك الأكبر لكعكة الميزانية العامة للدولة العبرية. ورغم أن السجال حول هذين العاملين ليس جديداً بل تكرر عدة مرات إلا أن الغلبة في الماضي كانت، وربما لا تزال، للجيش الذي كان يقنع الآخرين، في نهاية المطاف، بأن الأمن هو الضرورة الأساسية لبقاء الدولة اليهودية.
والجديد هذه المرة هو أن الجيش الذي يعيش منذ أكثر من عقدين من الزمن على فكرة التحول نحو «جيش صغير وذكي» لم يجد طوال السنين الفائتة فرصة كالمتوفرة حالياً. صحيح أن معاهدات كامب ديفيد قبل ثلاثة عقود ونصف وفرت على الجيش الإسرائيلي جهد الاستعداد لحرب على أكثر من جبهة، وصحيح أن الواقع الإقليمي منع احتمالات الحرب الشاملة، إلا أن خطر الحرب التقليدية، ولو المحدودة، ظل قائماً. وقد لاحظ الجميع توجه "إسرائيل" نحو الحروب من نمط «حرب لبنان الثانية» و«الرصاص المسكوب» و«عمود السحاب» ولكن بقي في البال احتمال تطور مثل هذه الحروب إلى أوسع خصوصاً مع سوريا.
ولكن
في أعقاب الربيع العربي والتهاء القوى العربية بإعادة تشكيل عنيف لواقعها السياسي،
خصوصا في سوريا ومصر، اندفع الكثير من المفكرين الإستراتيجيين في "إسرائيل"
للقول بالفرصة السانحة. فالجيش السوري الذي كانت إسرائيل تحسب له
الحساب يخوض حرباً أهلية تقوض ليس الجيش وحده وإنما عناصر قوة المجتمع الذي يحميه.
والشيء نفسه، وإن بشكل أقل مع الجيش المصري، في ظل الاستقطاب الحاد في المجتمع
المصري بين الإسلاميين وسواهم. وقد سبق وتحطمت الركيزة العربية الثالثة وهي الجيش
العراقي بتدمير العراق في الغزو الأميركي له.
والفرصة السانحة هنا تعني أنه في ظل انعدام احتمالات الحرب
التقليدية، الشاملة أو المحدودة مع دولة أو دول، في السنوات القليلة المقبلة، يمكن
لإسرائيل أن تعيد تشكيل جيشها ونظرية تفعيله على أسس حديثة. وهكذا فإن الأفكار
التي طرحها في التسعينيات رئيس الأركان الأسبق، إيهود باراك، وتلك التي حاول
تنفيذها رئيس الأركان السابق دان حلوتس، وجدت هذه المرة بيئة ملائمة.
فقد أقر قادة الجيش أولا وقبل كل شيء بصدقية دوافع حركة
الاحتجاج الاجتماعي في إسرائيل والتي انطلقت من واقع تآكل الطبقة الوسطى. وبسبب
إدراك الجيش أن المنعة الاجتماعية هي جزء لا يتجزأ من المنعة الأمنية والقومية فإن
قيادة الجيش كانت أول من اهتم بمحاولة التلاقي معها. وكان بالوسع الاعتماد على
نظريات الحد الأقصى التي تعتمد السيناريوهات الأسوأ لتبرير تعظيم المخاوف لرفض
التجاوب مع الحاجة لتقليص ميزانية الجيش التي تصل بشكل مباشر وغير مباشر إلى حوالي
خمس الميزانية العامة.
وانطلقت خطة «تعوزا» الرامية إلى تخليص الجيش الإسرائيلي تقريبا من كل أسلحته القديمة وتغيير وجهته بشكل شبه تام. وفي إطار هذه الخطة يجري التخلص من الكثير من وحدات المدرعات والمدفعية والسفن الحربية بل وأسراب الطائرات القديمة نسبياً. وخلافا لخطط سابقة كان التغيير يتم فيها بالتدريج وبشكل طبيعي فإن التغيير هذه المرة يتم بسرعة وبقصد التوفير بأسرع وقت ممكن. وقد أثارت السرعة مخاوف لدى بعض القادة والمعلقين خصوصاً من المراهنة على أن شيئاً كبيراً لن يحدث في السنوات القليلة المقبلة وأن كل ما يمكن أن يحدث يمكن احتواءه بما يتوفر من قوات.
وتنبع المخاوف أساساً من الفترة الانتقالية الطويلة نسبياً بين التخلي عن ما هو قائم وبين توفير البديل الأرقى. فقد بدأ الجيش الإسرائيلي منذ الآن بإغلاق سرب طائرات وينوي إغلاق سربين آخرين خلال العامين المقبلين، وكل ذلك قبل أن تصل أسراب طائرات إف 36 التي تعاقدت "إسرائيل" على شرائها من أميركا. وكذا الحال مع السفن الحربية التي ينوون التخلص منها وربما بيعها لتوفير عدة مئات من الشواقل مطلوبة للجيش في إطار الخطة الجديدة لتعزيز توجهات في أذرع أخرى.
ومعروف أن جهدا إسرائيلياً كبيراً سيتجه أساساً نحو تطوير سلاح الاستخبارات وأدوات حرب السايبر وتطوير قدرات التنسيق بين مختلف الأذرع والقوات.
وفي كل الأحوال فإن المراهنة الإسرائيلية الفعلية هي على فكرة أن الشعوب العربية تفقد دولها وأنها تعيش مرحلة تفكك تحتاج إعادة بنائها إلى سنوات أو عقود طويلة. وهذا لا يعني أن "إسرائيل" لا تتخوف من تزايد ما تسميه مخاطر الحروب متدنية الوتيرة وهي غير المرتبطة بكيانات ودول وإنما بتنظيمات، ولكنه يعني أن هذا لا يندرج في باب المخاطر الإستراتيجية. فالدولة العبرية التي تحصن حدودها وتقيم الجدران الألكترونية وتطور قدراتها الاستخبارية وذخائرها الدقيقة تعتقد أن لديها الذراع الطويلة القادرة على التعامل مع هذه المخاطر بدرجة من النجاعة.
باختصار تنتهز "إسرائيل" فرصة انشغال العرب بحروبهم لتبدأ بناء جيش ليس ليخوض الحرب الماضية وغنما الحــرب المستقبلــية المبنــية على قدر هــائل من النيران الموجهة نحو أهداف مراقـبة بشكــل جــيد. ورغم أن الجيش الإسرائيلي اعتمد طوال تاريخه على قدرة الحركة، إلا أنه هذه المرة يركز على خفة الحركة باعتماد حمية تجعله أكثر رشاقة. وهو بذلك يحقق هدفين بضربة واحدة: يتجاوب مع الاحتجاجات فيقلص الميزانيــة ويتجاوب مع التطوير فيحدث الجيش.
تقديم وترجمة حلمي موسى
جريدة السفير15-7-2013
بتوقيت بيروت