لطالما شكّلت اللغة عبر تاريخ الحضارات دعامةً أساسية من
دعامات تكوين هويّة المجتمعات الإنسانية. فهي سمةُ بارزة من جملة سماتٍ تُميّز
المجتمعات عن بعضها بعضاً، أو تقرّب بينَها.
ولا شكّ في أن
تغيّراتٍ ما قد تطرأ على اللغة الواحدة مع مرور الزمن وتطوّر النظُم الاجتماعية.
فماذا عن لغة جديدةٍ استحدثتها التكنولوجيا المُعاصرة في مجتمعاتنا، فتلقّفها
الشبابُ على نحوٍ خاص، باعتبارها لغةً تتماشى وسرعة النمط التواصلي الذي فرضته
الحياة العصرية؟
إنها
الـ"أرابيش" (Arabish)، ذلك المولود اللغويّ الهجين الذي كوّنت ملامحَه عبر فضاء الشبكة
العنكبوتية، عمليّةُ الدمج بين العربية والإنكليزية، فصارت لغة الإنترنت هذه تغزو
شاشات التواصل الحديثة، من حواسيب وهواتف محمولة، وامتدّت مفاعيلُها لتطال محتوى
الإعلانات وأسماء المحالّ التجارية... وحتى بطاقات المُعايدة الجاهزة!
فما هي لغة الـ"أرابيش"؟ وما هي مدلولاتها الاجتماعية وخلفياتُ الترويج لها؟ هل وُلدت بفعلِ الثورة التواصلية الرقمية، أم نتيجةَ حاجة الشبابِ إلى لغةٍ يهرب على متنها نحو عالمٍ خاصّ به؟ وهل لهذه اللغة تأثيراتٌ على هوية المجتمع وأبعاده الثقافية والمعرِفية؟
* لغةُ الاختزال والرموز
وُلدت الـ"أرابيش" في غرف المحادثات الإلكترونية (Chat) عبر الإنترنت، كلُغة توفيقيّة مبتكرة تقوم على الدمج بين اللفظ بالعربية والكتابة بالأحرف اللاتينية والأرقام الأجنبية. وهي لُغة يرى مُعظم الشباب أنها عصريّةٌ وذكية، لأنها تقوم على الاختزال واستخدام الرموز البديلة عن كلماتٍ أو عباراتٍ، وحتّى الدمج بين بعض الكلمات، ما يجعلها أداة تواصلٍ سريعة الإيقاع، تمكّنت من إيجاد بدائل بالأجنبية لكلّ الحروف العربية، فبات الرقم "7" يرمز إلى الحرف "ح"، والرقم "3" يرمز إلى الحرف "ع"، والرقم "5" يرمز إلى الحرف "خ"... حتّى أنّ المشاعر أصبح بالإمكان اختزالُها عبر لغة الإنترنت هذه باستخدام رموز متنوّعة، كالوجوه الضاحكة أو الغاضبة أو الحزينة، وغيرها.
والجدير ذكره أنّ التغييرات اللغوية التي أفرزتها ثورة التكنولوجيا الحديثة لم تقتصر فقط على التداخل بين اللغات المُختلفة، بل هي طالت اللغة الواحدة، كالإنكليزية التي باتَ يُستعاض عن بعض مقاطع كلماتها بأرقام أو حروف، مثلاً "great" باتت تُكتب "gr8"، و "before" بات يُرمز إليها بـ "b4"، و "see you" أصبح يُستعاض عنها بـ"cu"...
* لغةٌ لملءِ فراغ
المطّلعون عن قربٍ على قواعدِ وأحوالِ اللغة العربية، لهم رأيُهم
في هذا الموضوع. إذ يرى الدكتور في علم النفس الاجتماعي والأستاذ في تقنيات اللغة
العربية محمد شحيمي أنّ الـ"أرابيش" لغةٌ سهلة، لكنها تفتقدُ إلى روحية
الاندماج الإنساني، ولا يمكن الاستعاضة بها عن اللغة العربية السليمة.
ويلفت إلى أن
التخابر بين الأفراد عن بعد، عبر استخدام وسائل الاتصال الحديثة التي وفّرها
الإنترنت ولغته الهجينة، غالباً ما يتم في عالم افتراضي لا يعبّر دائماً عن حقيقة
الأشخاص والأمور، على نحوٍ يفتقر إلى الإيماء والإيحاء اللذين يميّزان اللغة
العربية المُستخدمة في التواصل المباشر. وفيما تقوم اللغات على مجموعة من القواعد
والأسس الواضحة والمعروفة، يرى الدكتور شحيمي أنه لا يمكن إطلاق مصطلح
"لغة" على الـ"أرابيش"، لأن لا أُسس ثابتة وسليمة لها، بل من
الأجدر استخدام مفردتي "مصطلحات"
و"رموز" للتعبير عنها. ويوضح أن اللغة الحقيقية هي "لسانٌ فصيح" وليست
مُجرّد طريقة للاتّصال، بل هي وسيلة أُنس وتأشيرة دخول إلى عقول وقلوب الآخرين.
ويفسّر الدكتور شحيمي ميل الشبابِ إلى هذه اللغة الحديثة العهد بالسعي إلى ملء فراغٍ ما داخلهم يخلقه النظام الاجتماعي السائد، مدعوماً بالصورة المُنمّقة والشيّقة التي تُقدّم بها هذه اللغة، في ظل غياب التوجيه التربوي والتثقيفي والاجتماعي، وانحسار الدور الإشرافي للأبوّة والأمومة الفعليتين.
* وليدةُ الحداثة
أمّا الاختصاصيون في مجال التواصل والألسنية، فيرون أنّ استحداث
الشّباب لغة الـ"أرابيش" جاء بهدف الاختزال، ونتيجة الدور الذي لعبته
التكنولوجيا في تداخل اللغات.
مع العلم بأن
المساحة المحدودة لكتابة الرسائل القصيرة
"sms" على
شاشات الهواتف المحمولة، أو حتى مساحة الدردشة المسموح بها في بعض برامج المحادثات
الإلكترونية، مثل "twitter"، عزّزت استخدام لغة الـ"أرابيش" والرموز والاختصارات، ما
يعني أن تطوّر تقنيات التواصل ساهم في ابتكار هكذا نوعٍ من اللغات الهجينة. ويلفت
هؤلاء الاختصاصيون إلى أن جيل الشباب وجد في لغة الإنترنت وسيلة للتعبير عن
تغيّرات أحدثتها التقنيّات الحديثة على مستوى تمثيلهم المعرفي. فماذا يقول الشبابُ
عن لُغةٍ جديدة نُسِبت عمليّة استحداثها وتطويرها إليهم؟
* حاضرةٌ بقوّة
تؤكّد مهى (20 عاماً) أنّ لغة الـ"أرابيش" لها
حضورها الخاصّ على ساحة التواصل الاجتماعي، وهي باتت موجودة بقوّة، فقد توسّعت دائرة
انتشارها لتطال مجالات متعدّدة: الأماكن العامّة، المحال التجاريّة، الماركات،
اليافطات...
ولكنّ مهى ترى
أن الـ"أرابيش" لا تملك مقوّمات وخصائص اللغة بشكل فعلي، وهي لم
"تقتحم" بعد مجالَ التعليم، وربّما ستشكّل أساساً لحالة ثقافية قد نشهدها
مستقبلاً.
أمّا ليندا
(27 عاماً)، فهي تستخدم الـ"أرابيش" بشكل يومي، بنسبة 90 في المئة.
وتعزو ذلك إلى طبيعة عملها، وسهولة استخدام هذه اللغة "المواكِبة للعصر"،
والتي تلبّي حاجة الشباب إلى لغة سريعة الكتابة والفهم.
* تواصلٌ هجينٌ بلا هويّة
أما محمد (29 عاماً) فيرى أن لغة الـ"أرابيش" لا
توصل الفكرة كاملة إلى الطرف المُتحدّث معه.
ويقول محمد
إنه لا يستخدم هذه اللغة إلّا حين الاضطرار إلى الردّ على الطرف الآخر من
المحادثة، وهو يعتبر أن خطورتها تكمن في استخدام الحرف اللاتيني كأداة تسويقية
للمفاهيم الغربية في العالم العربي، وفي "تدجين" هذا الحرف في مجتمعاتنا
تحت عنوان سهولة استخدامه.
وهنا، نطرح
علامات استفهام حول هدفية الخدمة التي أطلقتها شركة
"google" تحت
عنوان "Google transliteration"،
والتي تمكّن مستخدمها من ترجمة مفردات لغة الـ"أرابيش" إلى العربية
البحتة. فهل طُوّرت هذه الخدمة من أجل الترويج للّغة الهجينة المُستجدّة في
المجتمعات العربية، ولتعزيز استخدامها بُغية أهدافٍ أيديولوجية وثقافيّة مشبوهة،
أم مراعاةً لمُتطلبات السوق الرّقمية العربيّة، والإفادة من تلبيتها؟؟
* الهوّية الثقافية.. مُستهدفة
في هذا السياق، يرى الدكتور شحيمي أنّ لغة الإنترنت، بما تحمل
من رموز، ليست بريئة، فهي قد تكون موجّهةً على نحو ممنهج نحو غاية ما، لا سيّما في
ظلّ صراع الحضارات القائم اليوم، ووسط مخاوف من توقيع صكّ تنازل عن دورنا التّربوي
والتّوجيهي لصالح التقنيّات الحديثة ومَن يقف وراءها.
ويحذّر
الدّكتور شحيمي من أنّ خسارة التراث هي خسارةٌ للحاضر والمستقبل في آن، وما يشوبُ
هذه اللغة من تشوّهات إنّما يُصيب قلبَ الهويّة الثقافية. وعليه، إنّ لغة الإنترنت
الهجينة تشكّل، وإن على نحو غير مباشر، أداةً لهجوم شرسٍ يستهدف اللّغة الأصلية
التي هي كيان تراثنا وهويّتنا الثقافيّة والحضاريّة، ووسيلةٌ لـ"غسيل دماغٍ
جماعي" يتمّ عبر مجتمعات تواصلٍ افتراضية في فضاء الشّبكة العنكبوتيّة.
ويرى الدكتور شحيمي أن لغة الإنترنت التي نُسب مصدرها إلى
الشباب أنفسهم، يُروّج لها كأرضية لثقافة هجينة جديدة نشأت بالفعل، قد تأخذ هؤلاء
الشباب إلى مكان غير مرغوب فيه، حيثُ يستهلكون الثقافات الغريبة ويستنزفون أنفسهم،
دون إنتاجٍ ثقافيّ خاص.
وفيما يخصّ
الخطوة الأولى على طريق حماية لغتنا وحفظ هويّتنا، يُشدّد الدكتور شحيمي على أنّه
يجب تقديم لغتنا العربية بطريقة مُحبّبة ومقبولة لدى الشباب، لأن المسألة أبعد من
رموز الإنترنت، فهناك استهداف لمجتمعاتنا عن طريق "التشويق والتسويق"،
و"وضع السمّ في الدسم".
* لسانٌ عربيّ مبين
غنيّةٌ هي لغتنا العربية، ويكفينا عظمةً أنها لغة كتابِ الله الذي نزلت آياته على قلبِ النبيّ الأميّ، فنطقها بلسانٍ عربيّ مُبين.. فلا عجبَ من أن تُستهدف ثقافةٌ هويّتُها اللغة العربيّة، طالما أن هجمةً شرسةً تحاول عبثاً تشويه صورةِ ذاك الرسول الكريمِ الذي نطقَ بها، فأدهشَ العالمَ بفصاحةِ لسانه، ولا يزال!
من مجلة بقية الله/العدد260
بتوقيت بيروت