حين شاهدتُ صورةَ المحتفلين يوم الأربعاء المنصرم بالعيد الـ62 لتأسيس الجامعة اللبنانية، مُكرِّمين - ومكرَّمين يستحقّون كلَّ تكريم - تمنّيتُ أن أعرف عددَ الذين بينهم يَدْرس أبناؤهم وأحفادُهم في هذه الجامعة. السبب الذي يحرّك فضولي حول هذه النقطة هو أن أعرف مدى ثقة المحتفلين الأكاديمية بهذه "الجامعة الوطنية".
سبق لي أن طالبتُ قبل سنواتٍ بإحصاء عدد أساتذة الجامعة اللبنانية الذين يدرس أبناؤهم في الجامعات "الأجنبية" أو الخاصة. السؤال نفسه إذنْ إنما على أوسع. وظهر لي حتى اليوم أن إجراء هذا الإحصاء ليس أقل صعوبةً بل استحالة من الإحصاء المستحيل الآخر المتعلّق بالأعداد الفعلية للبنانيين في الداخل. الاستحالة التي "تميّز" نظامَنا السياسي وتجعل عدم إجراء تعداد السكان في "الدولة الوطنية" أحدَ بنود ميثاقنا الوطني غير المكتوبة.
الفارق أن الإحصاء المتعلّق بأساتذة الجامعة اللبنانية "موجود" عملياً في سجلات صندوق تعاضد أساتذة هذه الجامعة لأن الرقم هو بالضبط رقم الأساتذة الذين يحصلون من الصندوق على منح لدفع أقساط أبنائهم في الجامعات الخاصة الرئيسية أو في الخارج.
أتكلّم عن بيئة تربطني بالعشرات فيها وشائجُ ودٍّ وعِشرةٍ وببعضهم صداقة مديدة مستمرّة. فأنا أحمل ليسانس حقوق من كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية. لكني آليتُ على نفسي منذ أصبحتْ خياراتُ التعليم العالي ملحّة في عائلتي الصغيرة... آليتُ أن لا يكون أولادي طلاّبا في هذه الجامعة بسبب عدم ثقتي بمعظم مستويات كلّياتها. ولو كان خيار تعليمهم متاحاً في جامعة نخبة علمية عامة في لبنان أي ملك الدولة اللبنانية كما هو الحال في دول مثل الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا والهند لكنتُ وفّرتُ على نفسي بالنسبة لشخصٍ بإمكاناتي المتواضعة "ثروةً" ماليةً استهلكْتُها ولستُ نادما بين كِلَف الجامعة الأميركية وكِلَفِ دعمِ الإقامة الدراسية في الخارج. وأمثالي كثيرون جدا جدا. الفارق ربما أنني لم أخجل سابقا ولنْ أخجل حالياً من إعلان ذلك.
سأشير قبل الانتقال إلى تحليل المعنى السياسي لهذا "الانحطاط التربوي الاستراتيجي" كما أصف دائما حالة الجامعة اللبنانية، إلى بعض التجارب الأكاديمية الناجحة المتواصلة في الجامعة اللبنانية كما في كلّيّتيْ الطب والهندسة و في "الفيليير" التي تأسّست في كلية الحقوق في النصف الثاني من التسعينات بالتعاون مع فرنسا لاختيار طلاب نخبة علمية (وليس مالية أو طبقية) وربما البعض القليل جدا غيرها ممّا قد لا أكون مواكباً له. هذا دون استعادة مَجْدٍ أكاديميٍّ لكلية العلوم في الستينات والسبعينات انقرض منذ مدة غير قصيرة. لكن الجسم العام للجامعة اليوم هو جسم مهترئ وفي أحسن الحالات متدنٍّ جدا. ولعل غيري قد لا يشير إلى حقيقة نسبية هي أنه في هذا المناخ المتردّي تأتي بعض الأمثلة الإيجابية عموما من "الفروع الثانية" أي المناطق المسيحية. لماذا؟
لقد قبضَتْ الطائفيّاتُ السياسيّة قبضاً مُحْكماً على جسم أساتذة الجامعة ككوادرَ تضخّ دينامية ولائية أساسية لتجديد قبضة المرجعيات السياسية. لا يفيد كثيرا أن يكون هناك أفراد ينتقدون هذا الوضع بين أساتذة الجامعة إلا أن صوتا واحدا لم يخرج علنا ضد كذبة شعاري "استقلالية الجامعة" و"تطويرها" كشعارين يغطّيان فقط زيادة الرواتب والمكاسب.
الجامعة اللبنانية هي باختصار أحد المظاهر الرئيسية لقوة النظام السياسي وانحطاطه في آن معا.
كَتَبْتُ دائما أن النظام قويٌ جدا ولكن الدولة تافهة في لبنان.
النظام قوي
والجامعة اللبنانية فضيحة استراتيجية على المستوى التربوي.
إذا كانت هذه جامعة الفقراء فالفقراء اللبنانيون ونخبتهم العلمية وقابليّاتهم
الإبداعية يستحقون جامعة أخرى. لم يكن مستحيلا على التعليم الرسمي أن يُنتج جامعات
نخبة علمية يقوم فيها القبول والتقدم على أساس الكفاءة والتفوّق. مصر أنتجت شيئا
من هذا في الثلاثينيات والأربعينات عبر جامعة القاهرة. الجامعة التي أصبحت جامعات
"نعى" نجيب محفوظ مستواها في مقال شهير في صحيفة "الأهرام" في
التسعينات، وهي صورةٌ وسّع إطارَها شيخُ الأزهر الحالي الدكتور أحمد الطيّب حين
صرّح لي في لقائي معه في خريف العام 2010 والمنشور في "قضايا النهار"
أنه يعتزّ بكونه كان طالباً في جامعة الأزهر ولكنه لا يعتز أبدا بكونه كان أستاذا
في هذه الجامعة (هكذا بكل صراحة).
في لبنان كاد التعليم الثانوي الرسمي في أواخر الستينات أن يصبح قطاع النخبة العلمية اساتذةً وتلامذةً أو جزءاً مهما فيها. في تركيا جامعات عامة عديدة يفتح النجاحُ في الدخول إليها أفقاً جديدا لمستقبل علمي ومهني ناجح داخل وخارج تركيا. الهند بلد أعلى نسبة من مهندسي المعلوماتية فيه هم من خرّيجي الجامعات الرسمية. فرنسا حيث "المدارس الكبرى" كما يسمّونها مدارس النخبة العلمية السياسية الثقافية الاقتصادية حتى لو كانت هناك طبعا جامعات خاصة مهمة.
لا بد من
إعادةِ تأسيسٍ أكاديمية للجامعة اللبنانية. وهذا مستحيلٌ سياسيا!
أخيرا إنه لمن المثير أن نلاحظ كيف تَرابطَ انحطاط الدولة الوطنية في العديد من
دول العالم العربي مع انحطاط الجامعة الوطنية في كل من هذه الدول. وتحديدا في
لبنان والعراق وسوريا ومصر وليبيا.
بقلم: جهاد الزين/جريدة النهار20-04-2013
بتوقيت بيروت