"حلمت بالأمس أن
محموداً يقوم بتنظيف المنزل، إنه أخي الكبير كان يغسل هذه الغرفة، من
السقف، من هنا. أخبرتُ أمي وأخواتي بهذا المنام". حين كانت المرأة تتكلم،
كانت تشير بيدها إلى ناحية من سقف منزلهم القديم، فيما كان صوت بكائها
يرتفع في الغرفة ويرتفع معه بكاء النساء الأخريات.
* أنتَ فخر الأمة
* من العائلات التي قدمت شهيدين من أبنائها في سبيل الله ودفاعاً عن الثورة الإسلامية إبان الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية.
* لـقــاء الحبـيـب
لم
تكد تنهي كلامها حتى قالت أختها: "وأنا كذلك قبل نحو الشهر، قبل شهر
رمضان. شاهدت في عالم الرؤيا أن آية الله الخميني وآية الله الخامنئي قد
زارانا في هذه الغرفة، تقدمت نحوهما، مسحتُ بعباءتيهما يديّ. وقد أخبرت
والدتي فقط. عند الصباح حين روت أختي منامها. قلت لا شك بأن السيد سيأتي.
كانوا يقولون لن يزورنا وكنت أقول لهم لا تفسدوا تفاؤلي بكلامكم السلبي.
بالتأكيد سيأتي؛ فالشهيد لا يكذب". صوت بكاء النساء كان مرتفعاً، وهذه
السيدة كان حديثها أبلغ.
تأخذ السيدة "البليغة" دفّة المجلس مرة أخرى:
"أختي هذه التي شاهدت "محموداً" في منامها، هي نفسها والدة شهيد، فمنذ
استشهاد أخويّ محمود وحسين وأمي لا تزال تنتظر أن يأتي "أحد" لزيارتها، ولم
يكن عندنا سوى أمنية واحدة وهي أن نقابل القائد، وإن أردتم أحضر لكم
الدفتر الذي سجلنا عليه كل هذا".
التفتُّ إلى المرأة العجوز [والدة
الشهيدين] الجالسة أمام الباب بين الغرفتين، قرب ابنها المتوسط العمر، فإذا
هي كما قالت ابنتها وكأنها جالسة تنتظر منذ سنوات. تركّز نظراتها على نقطة
ما أمامها، لعلها في الأصل لم تعرف ماذا يجري عندما قال لها أولادها إن
ضيفاً سيأتي، ولكنها لبست عباءتها الوردية وجلست تنتظر الضيف. على حافة
الجدار وُضعت صورٌ للشهداء ووُضعت إلى جانبها ورودٌ اصطناعية.
* المهم رؤية السيد
المنزل
قديم جداً. وفي كوة الجدار توجد صورة للإمام الخميني قدس سره داخل إطار
وقد بَهَت لونها وتفاصيلها. وفيما كنتُ غارقاً بالتأمُّل في صورة كبيرة
لضريح الإمام الحسين عليه السلام قام المرافقون بسحب جميع الهواتف
المحمولة، فتجدد حزن السيدات: "نريد فقط أن نلتقط بعض الصور" أجاب المرافق:
"ما باليد حيلة!".
أحضر الرجل المتوسط السن، والذي استقبلنا بوجه بشوش حين دخولنا، محفظةً وضع فيها كل الهواتف المحمولة. إنه الصهر الكبير للعائلة.
ورفع
معنويات السيدات بقوله: "المهم رؤية السيد!". أظن أن المرأة العجوز فقط
ليس لديها هاتف محمول، لديها فقط نظرة؛ نظرة عميقة تحدّق إلى زاوية الغرفة.
ما
إن أطلّ الصهر من الفناء حتى ارتفعت أصوات صلوات السيدات ترافقها شهقات
بكائهن. حسرة السيدات على عدم إمكانهن تقبيل يد القائد، جعلتهن يطلن التبرك
بعباءته، يمسكنها ويقبّلنها ويذرفن الدموع: "جعلت فداك، عافاك الله، الشكر لله الشكر لله".
* المصيبة تضاعف الأجر
سأل
القائد عن صحة الأم وأحوالها. فعلم من الزوجة والأبناء أن والد الشهداء قد
توفي في العام 45هـ.ش [1966] وأن هذه الأم قد ربّت خمس بنات وثلاثة صبيان
وتحملت شظف العيش والفقر كي يكبروا بكل اعتزاز وافتخار. فيما صوت الأم ما
زال يردد بالشكر: "الشكر لله، الشكر لله، إنني مسرورة جداً يا سيدي، لا أدري كيف أشكر الله على هذه النعمة، الشكر لله".
فقال القائد: "لو
كان الأب حيّاً لواسى في فقد الأبناء وخفف الألم، والحال أنه غير موجود
فإن المصيبة مضاعفة. حين تتضاعف المصيبة فإن الأجر يتضاعف أيضاً إن شاء
الله".
كان أحدهم يشرح أن ابنة هذه الأم هي أيضاً والدة شهيد وزوجة
جريح، حينها قاطعت فتاة في نحو الحادية عشرة من عمرها الحديث قائلة: "عفواً
يا سيدي، يمكن أن تهديني كوفيتك؟" فجاءها الجواب: " بالتأكيد يمكن! أعطوا
هذه الكوفية للآنسة". وبهذه السهولة صارت صاحبة كوفية القائد.
الرجال
كانوا يتحدثون مع القائد عن أمهم، كان عمر طفلها عشرين يوماً حين توفي
الأب، وهي منذ خمسة عشر عاماً تجلس هكذا في زاوية الدار ومع هذا فقد التزمت
أن تخرج لتشارك في كل انتخابات. وكانت أيام الثورة من المجاهدات اللواتي
كن يشاركن دوماً في جميع التظاهرات الثورية.
والآن ها هي تطلب من القائد
أن يدعو لها في صلاة الليل ويطلب لها المغفرة من الله تعالى وأن يدعو لحفظ
إمام الزمان | وأن يدعو للشباب.
* هنيئاً لكِ هذه النعمة
كلما ساد الصمت في أجواء الأسرة، كان القائد يطرح سؤالاً يعيد للمجلس حيويته، يسأل عن الشباب والأولاد وعن تاريخ شهادة الشهداء.
بالتأكيد لم يغفل القائد عن الروحية التي تتحلى بها هذه الأم: "هنيئاً
لكِ أيتها السيدة هنيئاً لكِ على هذه النعمة. لا أعني نعمة شهادة الشباب،
فهذه لها حسابها الخاص، بل نعمة الرضا والتسليم، هذه نعمة كبيرة تحتاج إلى
الكثير من الشكر، وهي مصدر رقي الروح الإنسانية. الكثير من همومنا سببها
عدم الرضا، وعدم القناعة، وعدم التسليم لأمر الله. فالله تعالى عندما
يعطينا شيئاً نقول إن فيه العيب الفلاني، وعندما يأخذ منا شيئاً ترتفع منا
صرخات الاعتراض، هذا هو الإشكال في أعمالنا، وهذه هي همومنا. حالة الرضا
والتسليم هذه التي أراها عندكِ، هي نعمة كبرى من عند الله وتستحق الشكر
الكبير وهي طريق معبّدة نحو الدرجات العليا. إن شاء الله تلك المقامات تكون
من نصيبكم بمشيئة الله".
وأثناء
حديث الأبناء الذين قالوا إن الوالدة لم تتلق أي شيء من مؤسسة الشهيد سوى
حج بيت الله الحرام، قدّم القائد نسخة المصحف التي كتب عليها عدة أسطر
وليرة ذهبية للأم وقال: "تفضلي هذه ذكرى لقائنا اليوم". ولكن هذه
الأم لم تأخذ شيئاً طوال هذه السنوات، فمن الواضح أن الذهب لا يعني لها
شيئاً: "سيدي لا أريد سوى سلامتك أنت فخر الأمة، أشكر الله على هذه النعمة،
شكراً جزيلاً لك، سلمت يداك".
* صورة جيدة
بعد
ذلك طلبت إحدى الأخوات الخمسة من القائد أن يسمح بأن تُلتقط صورة لها مع
والدتها إلى جانبه. فقال القائد "تفضلوا ما المانع" ثم التفت إلى المصوّر
قائلاً: "خذ صورةً جيدة". قالت ابنتها الأخرى بحزن: "أمي، هل آتي أنا
أيضاً؟" أجابت الأم القلقة من حدوث فوضى: "لا يا عزيزتي، لا يمكن" ولكن
القائد المتيقظ لكل ما يحدث حوله، قال: "فلتأتِ الآنسة أيضاً". السيدات
الأخريات كنّ يهمسن فيما بينهن ليتنا معهم نحن أيضاً.
أخرج صهر العائلة
من جيبه قطعة جريدة فيها صورة للقائد وسط مجموعة من حراس الثورة في العام
67هـ.ش [89م]. نشرت بعد عدة سنوات. وقد كُتب تحتها "سماحة القائد" ويظهر
الصهر أيضاً في الصورة. قدم الصورة للقائد وسأله "هل تذكرون قصة هذه
الصورة؟" رفع القائد نظاراته للأعلى فارتسمت على وجهه ابتسامة لكنه لم
يتذكر القصة عندها ذكر الصهر الرواية التي كانت ذكرى جميلة ومميزة فسأله
القائد: "هل عندك صورة أخرى عنها؟" فقال لا، فطلب القائد منه أن يسلّم الصورة للمكتب قائلاً: "صوّروها ثم أعيدوها له بعد أن تضعوها في إطار كبير".
* نريد الدعاء فقط
والآن
جاء دور هدايا القائد. حيث طلب إحضار حقيبة والتفت إلى أخوات الشهيد،
فأهدى كلاً منهن ليرة ذهبية "إمامية" [عليها رسم الإمام الخميني قدس سره].
لم تصدّق الأخوات الأمر، فقلن: "نريد منكم الدعاء فقط" وفتح باب المزاح
وارتسمت البسمات على الوجوه.
كنتُ أقول لهنّ بهدوء ـ دون أن يشعر
المرافقون: "اطلبن كوفية من السيد فبالتأكيد سيعطيكن". فقد لاحظت هذا الأمر
في الحرم بالأمس إذ إن القائد أعطى كوفية لكل من طلب فوراً أو كان يقول
للمرافقين أرسلوا له واحدة.
* لا للفراق
الصهر
الذي كان مسروراً جداً قال بلهجته القمّيّة: "سيدي! أنا لا أدافع عن نفسي
ولكن لم يبق سوى زوجي الأختين دون هدايا، وهم اثنان فقط". لكن القائد الذي
يعرف هذه الأساليب قال: "أزواج الأخوات يأخذون ليراتهم من زوجاتهن". فضحك الجميع وارتفعت الأصوات.
قبل
أن يخرج القائد استأذن أمّ الشهيد. وأحضروا سكّرية كي يدعو القائد
ويباركها. وحين همّ القائد بالنهوض، عادت الدموع لأعيُن السيدات! هذه المرة
أمسكت الأم- والدة الشهداء- عباءة القائد ولم تكد تفلتها.
بتوقيت بيروت