هم المتباهون بشهاداتهم الثانوية، والمتفاخرون بمتابعتهم الجامعية، وهم أيضاً أنفسهم الحائرون التائهون في عالم العلم والمعرفة، يريدون هذا الاختصاص.. بل ذاك.. بل كليهما! بعضهم يخوض غمار التجربة في اختصاصٍ سمع عنه، وبعضهم اضطرّ مجبراً إلى الالتحاق باختصاصٍ لأسباب متعددة، وآخرون التحقوا بأصدقائهم، وغيرهم سارع إلى دراسة اختصاص يلائم قدراته...
هكذا هم خرّيجو المرحلة الثّانوية، يخوضون معتركات الاختصاصات الجامعيّة المتنوّعة، منهم من ينجح رغم كل الظروف، بعضهم الآخر فشل فذهب نحو خياراتٍ أخرى.
* لا حرية في الاختيار
تشير الدِّراسات إلى أن نسبةً كبيرةً من الطلبة المقدمين على دخول الجامعات لا يتمتّعون بحرّية اختيار اختصاصاتهم الجامعيّة، وهو ما ينعكس سلباً على مستقبلهم الأكاديمي والمهني والاجتماعي، وبالنتيجة على تقدّم وتطوّر المجتمع.
واللّافت أنّ هناك العديد من الأسباب التي تحدّ من قدرة الطّالب على اختيار تخصّصه الجامعي بحريّة، فهناك أولاً القيود مفروضة من قبل الأهل الّذين يفرضون على أبنائهم الالتحاق باختصاصات معيّنة بحجّة الحرص على مستقبلهم، ومن أجل رؤيتهم في مراكز وظيفيّة ومجتمعيّة مميزة، دون مراعاة طموحاتهم وقُدُراتهم.
وهناك أيضاً مشكلة تتلخّص بضعف الدّور المنوط بالمدرسة في توجيه الطّالب، فضلاً عن القُصور الذي تلعبه بعض المؤسّسات الّتي يعوّل عليها في توضيح احتياجات سوق العمل ومتطلّباته، وتعدّ جميعها عوامل تسهم في إضفاء حالة من الشعور بعدم الاستقرار، وضعف الرؤيا لدى الطّالب.
* بين الإجبار والميول وحريّة الاختيار
يحلم الطّالب بمهنٍ ومراكز اجتماعية كثيرة ويسعى من خلال دراسته إلى تحقيقها، ولكن مع انتهاء المرحلة الثانوية يُفاجأ في تنوع الاختصاصات وتشعبها، وكثيراً ما تصطدم أهواؤه وأحلامه بعوالم من الحيرة وانعدام القدرة على الاختيار.
تؤكد فاطمة (تتابع دراسة طب الأسنان في الجامعة العربية)، أنها لم تحبّ الطبّ يوماً ولم تتعلّمه إلّا من أجل والدها الذي كان يناديها بـ «الدكتورة» منذ كانت صغيرة، وكان يبتاع لها ألعاباً عبارة عن أدوات طبية. وتضيف: «وهكذا عندما أنهيت المرحلة الثانوية لم أملك حرية الخيار أمام ضغط والدي الذي يرى أنني وريث مناسب لعيادته وأدواته الطبية». وتعتبر فاطمة أنّ نجاحها في دراسة الطب لا ينمّ عن محبتها للاختصاص، إنّما يعود لجهدها في الدراسة، واحترامها لقرارٍ اتّخذه عنها والدها، تحت ذريعة ضمان مستقبلها.
وفي المقلب الآخر، لم يُوفَّق سامي في دراسة الحقوق، التي ألزمه بها والده بحجة أنه كان لا يزال صغيراً، ويضيف: «لقد أضاع أهلي سنتين من عمري سدىً بسبب إصرارهم على خوضي مجال الحقوق، كما أنّهم سلبوا منّي حرّية الاختيار ولذّته. واليوم وبعد أن فشلت في هذا الاختصاص تركوني وشأني، فتوجّهت نحو كلية إدارة الأعمال لأدرس فيها اختصاص العلوم المصرفية الذي لطالما حلمت بالعمل في مجاله».
* خيار خاطئ
وإذا كان اختيار الآباء لاختصاصات أبنائهم يشكّل قيداً يكبّل حرّيّاتهم التعليميّة، ولا يتوافق مع طموحاتهم، فكثيراً ما تكون خيارات الأبناء باختصاصٍ ما غير صائبة، ويعود ذلك إلى أسبابٍ متعددة، منها غياب التوجيه، أو اكتشاف عدم توفر القدرات الكافية في الطالب للإبداع في المجال الدراسي المختار.
فقد أكدت الطالبة حنان (المجازة في الإعلام المرئي والمسموع)، أنها عندما تخرجت أدركت أن خيارها لم يكن صائباً، والسبب يعود إلى عدم وجود فرصة عمل. وتعتبر حنان أن المسؤول عن سوء اختيارها «فقدان التوجيه الكافي من المدرسة ومن المؤسسات المختصَّة بما يتطلبه سوق العمل». وتكمل قائلةًـ: «لو عاد بي الزمن إلى الوراء، لاخترت اختصاص علم النفس نظراً لطلبه في سوق العمل، وللمردود المالي الوفير الذي يؤمّنه».
وبعيداً عن اختيارات الأهل، والاختيارات الشخصية الحرة، تجد بعض الطلاب يتأثرون بخيارات زملائهم، فيماثلونهم في الخيار، إما حباً بتقليدهم، أو حرصاً منهم على المحافظة على الصداقة معهم.
في المقابل تبدي منى أسفها على السنة الدراسيّة التي أضاعتها بسبب دخول كلية العلوم الاجتماعية تأثّراً بصديقتها آمنة، قائلة: «في منتصف العام الدّراسي الجامعي الأوّل اكتشفت أنّ هذا الاختصاص لا يلائمني، عندها غادرت الجامعة، والتحقت في السنة التالية بكلية إدارة الأعمال».
* خيار مناسب
من جهتها تعبِّر سارة، الحائزة على إجازة تصميم إعلاني من الجامعة اللبنانية الدوليّة، عن مدى ملاءمة خيارها الجامعي لقدراتها وميولها، «إنَّ هذا الاختصاص يجاري طموحاتي، ويعبّر عن موهبة الرسم التي أتمتّع بها، وفي الوقت عينه يلبّي حاجة سوق العمل».
وفي هذا الإطار، لم تندم أنيسة أبداً في اختيار التمريض أسوةً بزميلتها رندا، وتقول: «لقد ضربت عصفورين بحجرٍ واحد، إذ نجحت في دراستي، وفي الوقت عينه لم أخسر صحبة صديقة الطفولة المفضّلة لديّ».
* التوجيه المدرسي (مدارس المهدي(عج))
وإذا كانت المدرسة هي الميدان الأوّل الذي يتطلّع من خلاله الطّالب إلى الاختصاصات الجامعيّة المتاحة، ومركز الفصل الأساس لاكتشاف ميوله وقدراته مبكراً، فقد خطت بعض المدارس على هذا الدرب من التوجيه. على سبيل المثال بدأت ثانويّة المهدي(عج) (شاهد) منذ ما يقارب الأربع سنوات بتوفير برنامج التوجيه المهني لكافّة تلامذتها في المرحلة الثانوية وذلك بالتعاون مع المركز الإسلامي للتوجيه والتعليم العالي. وفي لقاء مع مدير الثّانوية الأستاذ أحمد قصير قال لنا: «يتمّ تخصيص أكثر من 10 ورش تدريب سنوياً للتلامذة من الصفّ العاشر إلى الصفّ الثاني عشر، ويقوم مدرّبون من ذوي الاختصاص بتقديم الشّروحات وعرض التجارب المختلفة عن الاختصاصات الجامعية بالإضافة إلى إجراء العديد من التمارين والاختبارات التي تساعد التلميذ على معرفة ما يختزنه من قدرات وإمكانات ومدى مناسبته لما يتطلّع إليه من اختصاص».
وتتواصل المدرسة باستمرار مع مجموعةٍ من الجامعات والمعاهد الجامعية وتستضيفها، حسبما يقول الأستاذ قصير ويضيف: «تتم استضافة مجموعة من الجامعات والمعاهد في المدرسة لتعريف التلامذة إلى تفاصيل الاختصاصات المتاحة وآليات الالتحاق بها، كما يحضر تلامذتنا في صفّي الحادي عشر والثاني عشر المعارض الثّانوية التي تقام بحضور مندوبي الجامعات المختلفة وتوفر كمّاً كبيراً من المعلومات والتّفاصيل حول الخيار الجامعي الأمثل لكل تلميذ».
وفيما يتعلّق بموضوع ضغط الأهل لجهة تحديد التوجّه الجامعي، يقول الأستاذ أحمد قصير: «بالإضافة إلى الضّغط الذّهني والنّفسي الذي يعيشه الطّالب والمرتبط بقلقه من الامتحانات الرسمية من جهة وتردّده في اتّخاذ خياره الجامعي المناسب للسنة التعليمية الأخيرة، يبرز ضغط الأهل في تحديد التوجّه الجامعي، ولذلك تظهر أهمية التوجيه المهني المسبق لمساعدة التلميذ على اتخاذ القرار المناسب. ومما لا شك فيه أنّ دور الأهل مهم في هذا الإطار وذلك بناءً على ما يملكونه من معرفةٍ ولتراكم خبراتهم العملية، ولكن يقتصر دورهم على المساعدة وليس اتخاذ القرار وهذا ما تسعى إليه المدرسة، عبر اللّقاءات مع الأهل لإيضاحه».
* اختبار القدرات وتصويب الخيارات
نظراً لأهميّة التوجيه ومدى جدواه وفعاليّته في الميدان الدّراسي والعملي، نشطت بعض الجمعيّات باتجاه المدارس لتشبع نهم الطّلاب المتشوقين لمعرفة الاختصاصات الجامعية المتنوّعة، ولتوجيههم نحو الاختصاصات التي تلائم قدراتهم الذهنية وميولهم.
ولكن فعاليتها تتفاوت ما بين المدارس، فكلما كانت المدرسة متعاونة ومتقبّلة للموضوع كلما أعطت مساحة أكبر من الوقت للمراكز كي تقوم بعملها على أكمل وجه.
* مشاكل اختيار الاختصاص الجامعي
يسلّط الباحث في الشؤون التربوية ومدير برنامج التقوية في مركز الصادق(ع) الأستاذ عبد الله شعيتو، الضّوء على المشاكل والضغوطات الّتي قد تواجه الطالب عند إنهاء المرحلة المدرسية.
ويعتبر أن الصّعوبات المتعلّقة باختيار الاختصاص الجامعي للطّالب هي عبارة عن تراكمات لمشاكل عدّة بدأت عند الطالب في المرحلة المدرسيّة والثانويّة، ومنها: عدم علمه بالاختصاصات المتوفّرة في الجامعات، والتفرّعات التي تتشعّب منها هذه الاختصاصات، ومجال التخصّص في الدّراسات العليا، وما تمكّنه هذه الاختصاصات من الالتحاق بسوق العمل.
أما عن تدخّل الأهل في قرار اختيار الاختصاص الجامعي فلا يأخذ الأستاذ عبد الله شعيتو الموضوع من الجانب السلبي فقط، بل يبرر لهم ذلك نتيجة خوفهم وحبهم في أغلب الأحيان.
وبصفته مديراً لبرنامج التّقوية في جمعية الصادق(ع) العلمية، يشرح الأستاذ شعيتو: «نعمل في الجمعية على توجيه الطلاب نحو اختصاصات علمية حديثة منها برنامج التقوية وبرنامج الطّالب المتميز، بالإضافة إلى الندوات والورش واللّقاءات العلميّة التي تصبّ في خدمة هذا الهدف».
ويدعو الأستاذ عبد الله شعيتو الطّلبة إلى تحصيل الثّقافة الكافية حول الاختصاصات، كي يبدعوا ويعطوا أكثر، في دراستهم ومهنتهم، ما يكفل لهم موقعاً متميِّزاً لخدمة مجتمعهم بشكل خاص وأمّتهم بشكلٍ عام.