هذا النص لفقرات من مقالة لكارستن ينسن وهو كاتب دنماركي معروف، وناقد لاذع حد الشراسة، للسياسة اليمينية لأوروبا والدنمارك. كتبها بعد انتهاء مدة إقامته في لوس أنجلوس محاضراً في جامعة كاليفورنيا، وعودته إلى كوبنهاغن.
يقول ينسن: أعود مخلفاً ورائي بلداً يعاني نظاماً صحياً فقيراً ومهلهلاً في ظرف عصيب، يرتفع فيه عدد المصابين بفيروس الكورونا بشكل كبير ومتسارع. يقول إن الباصات العامة لم تكن خالية وستظل دوماً ممتلئة، طالما الفقراء وهم كثر لا يملكون سيارات، ومجبرون على الذهاب إلى عملهم بسبب الفقر، وإلا فُصلوا بسبب عدم وجود ضمان صحي لهم، ولذا يترك اقتصاد السوق للفيروس أن يلتهم ما يشاء في ظل مجتمع غير عادل.
عدد المصابين المعلن قليل، لأنه ببساطة لا أحد لديه الإمكانية من أجل إجراء الفحص المُكلِف مادياً، وقلّة من يخضعون له. (وتعليقي الخاص هنا الإشارة الى شفافية ودقة ومهنية النظام الصحي في الدنمارك وكشفه عن أعداد الإصابات بشكل دقيق، يقف خلف عدد المصابين المرتفع هنا، أي كفاءة النظام الصحي وفاعليته التي واكبت تطور الحالة بدقة وأعطت أرقاماً دقيقة، خلافاً لما نراه في دول اخرى).
اميركا تتحلل وقائمة على الاكاذيب
يقول ينسن إنه خلال الأشهر التي أمضاها في الولايات المتحدة، شهد ديموقراطية تتحلّل، ديمقراطية مختلة، قائمة على الأكاذيب والخداع، غير قادرة على إدارة أزمة. اعتدنا القول أن القادة الاستبداديين جيّدون، على الأقل، في اتخاذ القرارات. لكن الأمر مع الولايات المتحدة يختلف، حيث يقودها زعيم استبدادي لا يتسم بالجهل وعدم الكفاءة فحسب، بل هو غير حاسم، شرس، متردد ومذعور.
ترامب لديه تفسير واحد فقط لشرور هذا العالم، ألا وهو الأجانب! كما لو كان في الإمكان إبقاء الفيروس بعيداً خلف الحدود المغلقة، ومراقبة جوازات السفر ومنح أو عدم منح التأشيرات للسيطرة عليه. قام بمنع مواطني أوروبا من الدخول، وأبقى الحدود مفتوحة للبريطانيين للسفر إلى الولايات المتحدة. وفق المنطق الشعبوي، فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يحميهم من فيروسات القارة الأوروبية الموبوءة.
على حافة الانهيار
كتبت مرة، أن لحظتين عظيمتين فارقتين يصادفها المواطن الدنماركي في حياته، هما اللحظة التي يقف فيها في صالة مطار كاستروب وهو يغادر البلد، واللحظة التي تطأ فيها قدماه صالة الوصول قادماً من الخارج. ما أشعر به حالياً، يقول، إني أعود إلى دولة تأخذ حياة مواطنيها، أمنهم ورفاهيتهم على محمل الجد. مخلّفاً ورائي بلداً غادرته وهو على حافة الانهيار خلال أسابيع قليلة، قد تؤدي إلى كارثة تاريخية عالمية، لأنه لا يأخذ حياة مواطنيه على محمل الجد.
ربما تبدو الدنمارك، بلد أشباح، لبضعة أشهر أو أسابيع مقبلة (بسبب حظر التجوال وإغلاق غالبية مؤسسات الدولة)، لكنها ليست كذلك. بل على العكس من ذلك. الدنمارك دولة ديموقراطية حية معاشة نشطة فاعلة، يديرها قادة مسؤولون، يدركون أن الثقة واستعداد الآخر للتضحية لا يمكن الفوز بها إلا بقول الحقيقة. لهذا فالعزل الدنماركي الذاتي الحالي هو قرار عملي وضروري ودليل على حكومة فاعلة حاسمة.
العزلة الشعبوية ايديولوجيا مدمرة
لكن هناك أيضًا شكل آخر من أشكال العزلة الذاتية، عشناها لفترة طويلة جدًا. تسمى الشعبوية، والشعبوية لا تطارد الولايات المتحدة فحسب، بل أيضًا الاتحاد الأوروبي الذي أصيب بالشلل بشكل متزايد. إن العزلة الذاتية الشعبوية، وفكرة حل جميع المشاكل، وتجاهل العالم من حولنا ببساطة، هي أيديولوجيا مدمرة، مدمرة للذات، لا يمكن لها أن تحلّ أي مشكلة من المشاكل الطارئة علينا، لا الأوبئة، ولا أزمة المناخ ولا حالات اللامساواة والتفاوت القائمة حاليا في العالم.
دعونا نكسب ما هو خير من هذه العزلة الذاتية الطوعية التي سنضطر إليها لبضعة أسابيع أو أشهر. دعونا نستخدم العزلة هذه لمراجعة وتأمل أنفسنا وفحص ذواتنا، وتفكيرنا السياسي. دعونا ندرك أخيرًا أن لدينا عالمًا واحدًا فقط والاهتمام به ورعايته هي مسؤولية مشتركة. ودعونا نرجع إلى العمل جمعياً، تشاركيا، نحو مجتمع ينبض بالفاعلية والرغبة والإرادة للتغيير سنكون في النهاية ممتنين لهذا الوباء المفزع.
عاجلاً أم آجلاً سنضطر إلى وداع العالم الذي نعرفه!
(*) المصدر: صفحة فايسبوك لروائية عراقية مقيمة في الدنمارك دنى غالي.
بتوقيت بيروت