حين تنقلب الأدوار فتُصبح التلميذة مُعلمة ويتخرج الأُستاذ دكتوراً، يأتيك تعليق الدكتور حسني عبد الرضا الذي توج سنواته الـ 76 بشهادة الدكتوراه من المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والإجتماعية - الجامعة اللبنانية في 9 نيسان 2019: "من دون شك التقدم بالعمر محتوم، ولكن بإمكان الإنسان التغلب على كل عوارض الشيخوخة، وأنا اليوم لا أشعر بأنني متقدم في العمر".
يبدو أن أحلام عبد الرضا، صاحب الإرادة الحديدية لم تتحق بكاملها:"الدكتوراه حلمٌ وتحقق، والحلم الثاني هو أن يطيل الله بعمري ولو قليلاً، لكي أحقق حلم زوجتي التي رفضت في "عيد الحب" الماضي الإحتفال سوياً باليوبيل الذهبي لعيد زواجنا الخمسين لأنني كنت أضع اللمسات الأخيرة على الاطروحة، وبالتالي أتمنى أن نحقق هذا الحلم ونحتفل به لاحقاً ".
طالب ظنه زملاؤه أستاذاً
بعضُ الطلاب كان يظنه أستاذاً أثناء جلوسه على مقاعد الدراسة والبعض الآخر كان يتفاجأ عند معرفته بأنه طالب دكتوراه، والعديد من الطلاب كان بعمرِ أحد أحفاده، لكن المشكلة كانت في مكان آخر "الذاكرة عندي من دون شك ضعُفت، كنت عندما أقرأ الصفحة وأنتقل إلى الصفحة التالية أنسى ما قرأت بالأولى ما يضطرني إلى الرجوع إليها كي أربط المعلومات، عانيت من هذه المشكلة، لكن الحمد لله تغلبت عليها" يقول عبد الرضا في حديث لـ "نداء الوطن".
وبالنسبة إلى إبن بلدة رميش الجنوبية الدكتوراه كانت حلماً مؤجلاً، بعدما تخرج في شهادة الليسانس بدرجة جيد في العام 1972، وبعدها بسنتين فقط حصل على درجة ممتاز في الدراسات العليا ليأتي العام 1975 بويلاته عليه وعلى اللبنانيبن بحروبه المتتالية "اضطررت للهجرة مع عائلتي، وعدت في السنوات العشر الأخيرة لأُكمل شهادة الماستر في اختصاص الأدب العربي، ومن ثم شقيت طريقي في شهادة الدكتوراه بروحٍ ومعنوياتٍ عالية، حتى نلتها في نيسان الماضي بدرجة جيد جداً وبالعلامة القصوى".
حلم إنتظرته 50 عاماً
بدوره ومع بداية عقده الثامن، نال شيبان الجردي (71 عاماً) دكتوراه في العلوم الاجتماعية من المعهد ذاته، وقد يبدو هذا الخبر غيرَ عادي بالنسبة لقارئه، لكنه بالنسبة إليه أكثر من عاديّ لأنه متى "توافرت الإرادة فلا شيء مستحيل".
ويكشف في حديث لـ"نداء الوطن": "واجهتُ عقباتٍ كثيرة، لكنني لم أشعر باليأس أو الملل أبداً، بل بالعكس كلما واجهت عقبة كانت تزيدني إصراراً، وعندما تمت المناقشة ونلت الشهادة بتقدير جيد جداً، شعرت بالإرتياح لأنني حققت حلماً عمره أكثر من 50 سنة وقدمتُ مثالاً صالحاً لأولادي وطلابي".
ويُتابع "أُسرتي كانت مسرورة جداً بالإنجاز، وكذلك أصدقائي وطلابي الذين أصبح الكثيرُ منهم قضاة وسفراء وأطباء ومهندسين، وجميعهم اتصلوا بي وهنأوني على هذا الإنجاز في هذه السن، واعتبروني مثالاً وقدوةً للاجيال في قوة الإرادة والعزيمة، وتخطي الصعوبات للوصول الى الهدف".
ولأن طموحه غير محكوم بالزمن، يُحضر إبن بلدة الشويفات لإصدار مجموعة من الكتب في التربية والاجتماع والسياسة وتجربته الشخصية، مؤكداً أن الجامعة اللبنانية حاضرة دائماً في وجدانه، متمنياً من الحكومة الجديدة العمل على دعم وتطوير الجامعة اللبنانية والمدرسة الرسمية لأن فيهما طاقات هائلة تستحق الإهتمام والمتابعة.
ولا تتوقف بورصة أسماء خريجي المعهد العالي للدكتوراه في سن متقدمة عند الدكتورين عبد الرضا والجردي بإطروحتيهما اللتين حملتا عنوان "الرؤية الروائية واستراتيجيتها الإدراكية في الرواية اللبنانية" للأول و"العوامل المؤثرة في الانتخابات النيابية في لبنان" (بعد الطائف 1992-2009 ) إذ يبرز أيضاً كل من الدكتورين جوزيف الياس رعد بسنيه الـ 80 ولوران أندراوس بسنواته الـ 84 بإطروحتيهما "les aspects culturels de la mimesis vitale " للأول و"المشروع الأخضر- وزارة الزراعة نصف قرن في التنمية الريفية والزراعية المستدامة ( 1963- 2013 ) للثاني.
ولم يكتمل الشعور بالغبطة بالنسبة للدكتور إندراوس، إلا عند تلقيه خبراً من إبنته الصغرى التي لا تزال تتابع دراساتها العليا في إنكلترا "نجحت بتفوق في ختام دراستها، والتي نالت على أثرها منحة جامعية تجيز لها إتمام مرحلة الدكتوراه، فتضاعفت فرحة العائلة وقلت في نفسي: الحمد لله كنت القدوة لأولادي، بعدما توجت حياتي المهنية بشهادة الدكتوراه، وتعرفت على ثلاثة عمداء تولوا عمادة المعهد، ويتحلون بمزايا وأخلاق عالية وكان آخرهم العميد محمد محسن".
اولويتنا التنمية البشرية والإستثمار الأكاديمي
برؤيةٍ علميةٍ عميقة يؤكد عميد المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والإجتماعية - الجامعة اللبنانية الدكتور محمد محسن أن حبَّ المعرفة والتحصيل العلمي لا عمر ولا جغرافيا ولا زمان له، مرجحاً أن تكون هذه الفئة من الطلاب تبحث عن التعمق في عالم المعرفة وفي حقل الاختصاص، وهذا الهدف الاسمى من البحث العلمي "هم لا يبحثون عن شهادة جامعية بقدر ما يبحثون عن إنتاج علمي مستوف شروط الجودة العلمية".
وإذ يلفت محسن أنه ليس لدينا في المعهد عمر محدد للقبول في مرحلة الدكتوراه، شرطَ أن يستوفي الطالب شروط القبول في المعهد، يوضح أن المشرفين على هؤلاء الطلاب هم أيضاً بأعمار متقدمة وتتراوح أعمارهم بين 60 و75 سنة، وبالتالي هناك تقارب في الاعمار بين المشرف والطالب، مضيفاً أن دور المعهد هو تأمين البيئة العلمية والمعرفية الحاضنة لهؤلاء الطلاب، وبشكل أدق "يقع في دائرة التنمية البشرية والإستثمار الاكاديمي بالبشر لأن ثروة لبنان مرتبطة بتنمية قدرات الفرد في أي حقل من حقول المعرفة والإستفادة منها في المجتمع".
ولا يغيب عن بال محسن ذلك اليوم الذي رأى فيه عبد الرضا أثناء توجهه لإلقاء محاضرة لطلاب الدكتوراه، قبل ثلاث سنوات معتقداً أنه ضيف قائلاً له: "المشاركة في المحاضرة هي فقط لطلاب الدكتوراه، لكنه فاجأني بجوابه:"أنا طالب دكتوراه دكتور" فرحت مرحباً به، وكانت المرة الاولى التي أعرف فيها أن لدينا طلاباً بأعمار متقدمة، كونني كنت رئيس فرقة بحثية في علوم الإعلام".
ويختم مبدياً افتخاره لكون هؤلاء الأساتذة لا يزالون ينجزون أبحاثاً علمية ولديهم مشاركات علمية في مجلات علمية محكمة، وهي إحدى الشروط الواجب توافرها لمسألة التخرج، لكن لا يحق لهم ممارسة مهنة التعليم لأن الانظمة تنص على أن التقاعد هو في سن الـ 64، مشيراً إلى أن فترة إنجازهم لأطروحاتهم تراوحت بين 4 و6 سنوات، وهم لا يزالون يشاركون في الأنشطة الاكاديمية التي نقيمها، وحضورهم دائم والمعهد أصبح جزءاً من شخصياتهم الأكاديمية والعلمية.
بتوقيت بيروت