د. نسيم الخوري
لا يتجاوز التراث المكتوب، لما أنتجه البشر وحافظوا عليه قبل صناعة الورق ومعه وحتى نهاية ال2008، كتلة المكتوب والملفوظ المتراكمة الآن في الدقيقة الواحدة. يتجاوز هذا الكلام الخيال ويرمينا ونحن في عصر الفضاء وفورة الكتابات الضوئية وفوضاها اليوم في ما يعرف بال «بيج داتا» Big Data المستند إلى الخوارزميات Logharithmes نسبة إلى ما تركه محمد الخوارزمي ( 780م- 849 ) في علم الجبر والحسابات الهندية المصدر وقد برع فيها في عصر المأمون.
تجذب كبريات المدارس الشباب للتخصص في «البيج داتا» لأنّه حقل يخرج العقول من العقم النظري إلى هندسة المعلومات والاتصالات والرياضيات التطبيقية.
كانت شاشات التلفزة تجذب وتسبق السياسات. تنعكس المسألة بعد اصطياد ثقافات البشر تباعاً فوق الشبكة العنكبوتية الضوئية التي قزّمت الشاشات والثقافات المحكومة بالتواصل التقليدي ورمتها في العشوائية والمشاعية والصدفة والاستسهال إلى حدود الثقافة باللعب أو اللعب بالثقافة. تسارعت عمليّة النشر وتضخّمت عبر وسائل التواصل الاجتماعي حيث لا حواجز أو رقابة لتصبح المصادر/ المحيطات الغنيّة بالمعلومات من قبل الجميع وفيها مراكز الأبحاث والجامعات والشركات والدول الكبرى التي تلتقط روح الشعوب وأمزجتها بعدما تكرّر المكتوب والملفوظ في الفضاء.
جرّ هذا التدفق الهائل إلى اعتبار المواد والبيانات والصور شبيهاً بالنفط الخام الذي يجب تكريره وفق تقنيات وبرامج وتطبيقات علمية عالية لفهمه وإدارته، ومن مشتقاته الكثيرة تتمّ صياغته في معانٍ وأفكار واستراتيجيات متحرّكة قصدها التنمية والتخلف وتقرير مستقبل أي كتلة أو وطن أو مجموعة فوق الأرض.
قد يعادي أحدنا دولة كأمريكا مثلاً بما تفسح حقول التعبير والتغيير والتهديد، لكنّ مادة الاتصال تأخذ طريقها إلى التنقية بالإضافة إلى تحديد المواقع والتحركات وبطاقات الائتمان التي ترسم خرائط حركة الأموال وأصحابها. لا يعني محو المعلومات بنقرة الdelete وسلال المهملات الإلكترونية شيئاً للكثيرين لأنها باقية كمادة خام يتمّ استخدامها واستثمارها بضخامتها وغناها بحثاً عن المعاني والقرار. ليست متاحة للشعوب المفتونة بالتعبير الذي يشغل مساحات الحرام المحصورة تاريخياً في مصطلح الجسد الذي يجمع الجنس والسياسة والدين، أو في الصراع في مسائل الحرية والديمقراطية والعدالة وحرية المرأة وغيرها من المصطلحات المضيئة المعاصرة.
منذ ال1997تتحول كتابات الدنيا إذن إلى آلات وآليات وبرامج تسمح بتخزين كميات لا يمكن تقديرها من المعلومات في القواعد الرقمية. لا يمكن تشبيه أهميتها باكتشاف البخار في بدايات القرن ال19 أو بالثورة الصناعية في آخره أو بالثورة المعلوماتية مع أفول القرن العشرين. بلغت البشرية المرحلة النهائية من الثورة الصناعية الثالثة التي يمكن اختصارها بكونها مصدر استراتيجيات السلطة الفائقة لخلخلة المجتمعات والأوطان من بعيد وهدم أسسها على أيدي أهلها.
ما هي «البيج داتا»؟
التعريف والمفهوم عاجز عن حصرها، ولا يمكن لأيّ آلة تقليدية إدارية من استيعابها وتصنيفها وإدارتها لأنّها تتجاوز 3 تريليونات أوكتيت تتدفّق كلّ يوم في العالم. كان جمعها واختصارها قبلاً مقتصراً على الرسائل وأحوال الطقس وتحديد الجغرافية وحركة التجارة في الدنيا عبر «الياهو» لكنّها قفزت مع «فيسبوك» و«جوجل» اللذين كانا أوّل من أطلقها لتحلّق مع «تويتر» العصفور الأزرق للتحكم بالأسواق والاقتصاد العالمي ورسم السياسات والقرارات واختصار وجهة الأوطان بكلمات محدودة مختصرة واضحة تدير وتوجه المخاطر والحروب والأزمات مستخرجة من المواد الخام التي يهطل المواطنون بها فوق شاشاتهم رأياً عاماً.
كانت المعلومات تعني الكثير لمؤسسة ما ولا تعني شيئاً لأخرى وهذا ما أفضى إلى الأعمدة أو الأبعاد الخمسة للمعلومات الضخمة المهمّة:
أوّلاً: لا يفترض السؤال عن أهميتها وفائدتها ومعالجتها قبل السؤال عن حجمها volume وإمكانية جمعها وتخزينها لأن ما يكرّر من معلومات البشرية لا يتجاوز ال20 % من المحادثات والرسائل التي تجذب شهيّات الدول بينما يهمل ال80% الباقية.
ثانياً: يفترض الاهتمام بتنوعها variété لما تحمله من معلومات تختلف باختلاف أنماطها ومصادرها.
ثالثاً: يفترض تقدير مستوى السرعة vélocité والنشاط في معالجتها ومشاطرة أصحاب القرار بها.
رابعاً: لأنها معلومات تكون ربّما حافلة بالكثير من المخاطر والسلبيات والأكاذيب التضليلية التي تفقدها القيم valeurs.
خامساً: ولأنّ الكثير من المعلومات تقتل المعلومات فتصبح أحجامها حواجز أولى تولّد حواجز أخرى لها علاقة بمستوى الثقة بهذه المعطيات كما تفقدها صدقيتها véracité.
هل تسقط التقارير والدراسات والمعلومات والمقابلات السريّة والأخبار التي يزوّد بها السفراء والقناصل والخبراء ورجال المخابرات القادة تسهيلاً لرسم السياسات والاستراتيجيات وتمريرها على جرعات وتصويبها وقياس مدى نجاحها وإخفاقها عند التطبيق؟ هل أجازف إن كتبت بأنّ وزارات الخارجية والحكومات ستتحوّل إلى هياكل إدارية شكلية لا علاقة كبرى لها بمستقبل شعوبها وأوطانها عند رسم السياسات؟
نتابع وننتظر ونكتب!!
المصدر: الخليج الاماراتية