في
كانون الأول من العام 2015، قدّمت مؤسسة «راند» للأبحاث، استشرافاً لـ
«خطة سلام من أجل سوريا» خلصت إلى عدد من التوصيات الخاصّة بتغيير نهج
الولايات المتحدة في تعاملها مع الصراع السوري.
وتقوم الخطة التي قدّمتها «راند»، والتي تُعتبر احدى مؤسسات الابحاث التي
تميل الإدارات الأميركية إلى تبنِّي مقترحاتها، نظراً لارتباطها بوزارة
الدفاع (البنتاغون)، الداعمة والممولة لها، ووكالة الاستخبارات المركزية
(سي آي ايه) ومكتب التحقيقات الفيدرالي، (اف بي آي) حيث تقوم بمشاريع بحثية
لصالحهما، خاصة في ما يتعلّق بمنطقة الشرق الأوسط، على:
1 ـ توجيه التركيز والأولوية نحو دعم الجهود الرامية لتحقيق وقف إطلاق نار
في سوريا، وبالتالي يجب الفصل بين وقف إطلاق النار هذا وأي مفاوضات حول
الحل السياسي الشامل والانتقالي.
2 ـ تنشيط العملية الديبلوماسية بحيث تشمل جميع الجهات الفاعلة الخارجية بما فيها السعودية وإيران.
3 ـ الاتفاق على تأجيل القضايا الخلافية خاصة الخلاف حول مستقبل الرئيس السوري بشار الأسد.
4 ـ إيجاد آلية لفرض وقف إطلاق النار على أساس نشر قوات ضامنة خارجية في المناطق الصديقة لها.
5 ـ السماح لجميع الفصائل المُسلّحة بالانضمام لوقف إطلاق النار باستثناء
تلك التي صنّفتها الأمم المتحدة جماعات إرهابية مثل «داعش» و «جبهة
النصرة».
6 ـ نقل السلطات المحلية إلى الفصائل والأحزاب الداخلية (المعارضة والنظام
والقوات الكردية) كل حسب مناطق تواجده والمناطق الخاضعة لسيطرته، في الوقت
نفسه يجب على الجميع المحافظة على الجهود العسكرية لضرب «داعش» في المناطق
التي تسيطر عليها.
الآن وبعد ستة أشهر من عرض تلك «الخطّة»، حدثت تطورات على العديد من
الجبهات. ففي 22 شباط 2016، أعلنت الأطراف الرئيسية على الأرض وجميع الرعاة
الخارجيين قبولهم لاتفاق «وقف الأعمال العدائية»، كما وافقت جماعات
المعارضة الرئيسية ممثّلة بـ «لجنة المفاوضات العليا» التي ترعاها
السعودية، على المشاركة في المفاوضات حول مستقبل سوريا السياسي من دون وجود
ضمانات لرحيل الأسد على الرغم من أن هذا الأمر لا يزال هدفاً معلناً
لهم.... وغيرها من التطوّرات التي شملتها «خطّة» المؤسسة.
وفي الوقت الذي يجب الحذر به من الإفراط في التوقّعات من المحادثات
السياسية، فإن بعض التقدّم بشأن مسائل ترتيبات الحكم في سوريا هو أمر ضروري
للحفاظ على وقف إطلاق النار حتى ولو كان بشكل جزئي أو ناقص على المدى
الطويل.
ولأن هدف توحيد سوريا تحت قيادة وطنية متّفق عليها مع تواجد هيكلة أمنية
واحدة «يُعدّ أمراً بعيداً»، وفقاً للمؤسسة، يجب أن يكون هناك «نظر في
مسألة كيفية توفير الحكم الأساسي في المناطق التي تُسيطر عليها المعارضة
الآن».
واستكمالاً للورقة البحثية الأولى، أصدرت المؤسسة الجزء الثاني لـ «الخطة»،
ويقوم على اعتبار «اللامركزية» خياراً واعداً لإيجاد حلّ للحرب لأنها
«تُساهم في تحويل التركيز بعيداً عن خلافات لا يُمكن حلّها عبر التوزيع
الرأسي للسلطة داخل الحكومة المركزية لتوزيعات واعدة أكثر تناقش التوزيع
الأفقي للسلطة»، كما تُساهم في «المُساعدة على التغلّب على انعدام الثقة
بين الأطراف المتنازعة حيث تُقلّل من مخاطر الصراع وتُقدّم وعوداً لكل
الأطراف بقدر من الحكم الذاتي والأمن».
ووفق هذا المنظور، يُقدّم المقترح أربعة نماذج مختلفة من اللامركزية التي
قد تنشأ نتيجة لتسوية سلمية أو حتى في حالة عدم وجود اي اتفاق عامّ مثل هذا
الاتفاق. وقد يكون أحد أشكال اللامركزية نابعاً من تسوية سياسية نهائية
بين الأطراف المتنازعة خاصة بعد أن تصل الأطراف المختلفة إلى قناعة عدم
قدرتها على تشكيل دولة موحّدة أو تشكيل حكومة مركزية تُمثّل كل السوريين.
ورأت المؤسسة أنه على الرغم من أن إضفاء الطابع الرسمي على هذه الاتفاقات
بين الطرفين وتحت رعاية دولية سيكون أفضل، إلا أن هذه الترتيبات «ستتطوّر
بفعل الأمر الواقع وليس بحكم القانون، وبطريقة أو بأخرى ستحتاج كل الأطراف
لعكس واقع السيطرة المحلية إذا أُريد لها أن تتحمّل الأمر ولو موقتاً».
الخيار الأول: «لامركزية خفيفة» أو «محدودة» تتمثّل بإصلاح محدود في هيكلية
الإدارة المحلية التي تمّ تحديد صلاحياتها وفقاّ للتعديلات الدستورية في
العام 2012، وتحديداً المادتين 13 و131 اللتين تدعوان إلى «تطبيق مبدأ
اللامركزية في الصلاحيات والمسؤوليات» وتؤكد على «استقلال مالي وإداري»
للمؤسسات الحكومية المحلية، إضافة إلى إقران الدستور ومواده المذكورة
بتنفيذ المرسوم التشريعي رقم 107 الصادر في تشرين الثاني 2011 والذي تعهّد
فيه النظام السوري بمنح سلطات أوسع للأقاليم والمدن والبلدات بتخصيص نسب
معقولة من الموازنة العامّة للدولة للإدارة المحلية (البلديات)، ومنحها
فرصاّ لزيادة الإيرادات. وهذا الخيار قابل للتنفيذ بشكل كبير من خلال تطبيق
حقيقي للقوانين القائمة، كما أنه لا يتطلّب تعديل التقسيمات الإدارية في
سوريا ولا إصلاحاً دستورياً أو تشريعياً. ويقلّل هذا الخيار من فشل العملية
الانتقالية ويوفّر الكثير من الزخم لإصلاح أجهزة الدولة «القمعية».
من المرجّح أن يلقى هذا الخيار استحسان النظام السوري ومؤيديه، لكنّه
سيواجه معارضة من المجموعات الكردية التي تسعى لمزيد من الحكم الذاتي. أما
بالنسبة لـ «المعارضة السنّية العربية» ومن خلفها داعموها الأجانب، فإن هذا
الخيار لن يكون مقبولاً إلا إذا اقترنت اللامركزية مع تشكيل حكومة موسّعة
في دمشق.
الخيار الثاني: «إضفاء الطابع المؤسساتي على الإدارة المحلية» بحيث يؤول
الحكم الذاتي إلى المستوى المحلي في كافة الوظائف الحكومية الرئيسية بما في
ذلك الشرطة والإدارات، ما يُساهم في رفع مستوى النظام المعمول به في
المناطق التي تُسميها واشنطن «المناطق المُحرّرة» مثل درعا وإدلب والمناطق
التي تُسيطر عليها المعارضة في حلب وريف دمشق وحماه واللاذقية. ومن شأن
استمرار وقف القتال أن يسمح لهذا النموذج في التحوّل إلى مزيد من المدنية
ويُمكن أن يُطبق في مناطق سيطرة النظام كذلك. ولا يتطلّب هذا النهج أي
تغييرات في التقسيمات الإدارية، بحيث تؤول السلطة الفعلية إلى المجالس
المُنتخبة التي تُمثّل المدن والبلدات عبر تعديلات قانونية. لكنّ التحدّي
الأبرز يكمن في «إخلاص» الإدارة المحلية للدولة المركزية وهو ما يُمكّن
الدولة من منح الحكومات المحلية سلطات كالجمارك ومراقبة الحدود والانضمام
للجيش الوطني للتصدّي للتهديدات الخارجية، وفرض الضرائب على التجارة.
يُواجه هذا النموذج العديد من التحديات، فسوريا تمتلك تاريخاً طويلاً من
السيطرة المركزية، لذلك فإنه ليس من الواضح إذا ما كانت القيادات المحلية
قادرة على توفير الخدمات الأساسية وخدمات الحكم المختلفة حتى في ظل وجود
دعم خارجي. كما يفرض هذا النموذج تنازلات كبيرة من قبل النظام، والتي قد لا
تكون واقعية نظراً للوضع المتقدّم الذي يحتلّه النظام على ميادين القتال
في الوقت الراهن، ناهيك عن أن هذا النموذج يُعزّز خطر استخدام كل من
الجماعات المتشددة ومنظمات المجتمع المدني القوة أو الرفاه الاجتماعي
كوسيلة للحفاظ على السيطرة المحلية وزيادة القواعد الشعبية الداعمة لها.
وبعبارات أخرى، فكرة الإدارة المحلية لا تضمن الوصول إلى إدارة معتدلة أو
ديموقراطية. ولذلك، قد تحتاج القوى الخارجية إلى المساهمة بشكل فعّال، وفي
بعض الأحيان استخدام الجنود، لإنجاح كل منطقة محلية.
الخيار الثالث: «لامركزية متفاوتة» يُمكن أن يجمع بين الخيارين الأول
والثاني أو التوصّل إلى اتفاق حول حصول الأكراد على حكم ذاتي. والسيناريو
الأكثر وضوحاً يكمن في أن تُمنح «الكانتونات» الكردية في كل من عفرين
والجزيرة وعين العرب، والتي أعلنت نفسها اتحاداً قبل فترة، قدراً من
الاستقلالية أو الحكم الذاتي، من دون أن ينسحب الاتفاق على المناطق السورية
الأخرى التي ستظلّ تعمل تحت إدارة الحكومة المركزية. وفي حال بقيت المناطق
الكردية الحالية في حالتها، حكم ذاتي لم تعترف دمشق به، فإن النتيجة ستكون
مُشابهة للحالة التي مرّ بها الأكراد في شمال العراق في التسعينيات، حيث
تحوّل استقلال الأكراد إلى أمر واقع في ظل ضعف النظام العراقي وفرض منطقة
حظر جوي في إطار «عملية مراقبة الشمال». أما إذا قبلت الحكومة السورية
المركزية بالاتفاق وضمّنته في الدستور، سيكون الوضع مشابهاً للوضع الحالي
القائم في العراق، حيث يتمتّع إقليم كردستان بحكم ذاتي، لكنّه يُساهم في
صناعة القرار على المستوى الوطني.
السمة الأساسية في هذا الخيار تكمن في التباين في تمتّع الأكراد بحكم ذاتي
من دون أن يتمتّع به أي من «المعارضة السنية العربية» أو الطائفة الدرزية
التي تتركّز في السويداء.
على الرغم من كون هذا النموذج الأكثر ترجيحاً، نظراً للتطوّرات الميدانية،
إلا أنه يُعتبر الأكثر إثارة للجدل، حيث يرفضه كلُّ من النظام السوري و
«المعارضة السنية-العربية» وتركيا والدول الإقليمية التي تخشى من تداعياته
على الأقليات لديها. ومن غير الواضح كيف يُمكن إجبار الأكراد على التراجع
عن قرار الحكم الذاتي مع غياب قدرة النظام السوري على حشد قوات ضخمة وغياب
التدخّل التركي لوقف الانفصال الكردي.
الخيار الرابع: «لامركزية متماثلة» تقوم على منح الأكراد و «المعارضة
السنية العربية» نوعاً من الحكم الذاتي بحيث تُقسّم سوريا إلى ثلاثة أقاليم
(مثلاً، إقليم تابع للنظام وآخر للأكراد وثالث للمعارضة) تتمتّع بأوضاع
متساوية. ويتمتّع كل إقليم بحريّة التصرّف في شؤونه الخاصّة، ويكون مسؤولاً
عن جمع العائدات لتقديم الخدمات داخل حدودها، وإنشاء قوات أمن خاصة بها
لحماية نفسها.
ويلقى هذه النموذج، الذي يُنظر إليه على أنه شكل من أشكال الفيدرالية، رفض
كلٍّ من النظام السوري و «المعارضة السنيّة العربية» اللذين يصرّ، كل
منهما، على تحقيق الانتصار الكامل. كما أن معظم الشعب السوري يعتبر
«الفيدرالية» نوعاً من المؤامرة الغربية التي تستحضر مخطّطات الاستعمار
لتقسيم سوريا إلى دويلات. وأوكلت واشنطن وموسكو الخيار للسوريين في تقرير
مصير دولتهم، علماً أن «الفدرلة» تتماشى جيداً مع تصوّر روسيا لـ «سوريا
المفيدة» التي تتألف من دمشق وساحل البحر المتوسط، في حين أن الأراضي
السورية المتبقية «مصلحة ثانوية».
تُعارض معظم الدول الإقليمية هذا التوجّه لأنه يُبقي على النظام السوري
والنفوذ الروسي والإيراني، كما تُعارض تركيا، بشدّة، إقامة دولة كردية
مستقلّة على حدودها، نظراً لتخوّفها من انتقال «العدوى» إليها.
ويُشير الباحثون إلى أنه «سواء استمر الأسد في الحكم أو رحل، وسواء تمّ
توحيد الدولة السورية على الورق، فإن سوريا ستبقى مقسّمة بشكل كبير بين
مناطق خاضعة لسيطرة النظام ومناطق خاضعة لسيطرة المعارضة لوقت قريب، مع
وجود خطر كبير في أن تتحوّل مناطق المعارضة إلى مناطق أكثر تطرّفاً
وتشدّداً، وتنقسم إلى جيوب منفصلة تُسيطر عليها جماعات متحاربة من داعش
وجبهة النصرة وغيرها من الجماعات المتطرّفة التي تسعى لإطالة أمد الحرب.
وبالتالي سيتعيّن على الإدارة الأميركية وحلفائها تعزيز الحكم والأمن
المحليين في هذه المناطق للحفاظ على السلام وإمكانية لمّ الشمل في نهاية
المطاف».
وختم الباحثون أنه نظراً لانعدام الثقة بين الأطراف المُتحاربة «يُستبعد أن
تُحقّق أي من الصيغ الأربع المذكورة (أو أي تصوّر آخر) السلام الدائم في
ظل غياب بعض الترتيبات لضمانات ورقابة دولية على شكل حفظ للسلام، من قبل
القوى العالمية المُشاركة في الحرب على سوريا كالولايات المتّحدة وروسيا
وإيران وتركيا والأردن»، مضيفين أن البديل يكون بـ «إشراك دول غير مُشاركة
في الحرب وتُقدّم خيارات محايدة، وهو أمر مطلوب لتثبيت أي تسوية قائمة كوقف
الأعمال العدائية كالتي تسود حالياً، وإن كانت موقتة».
نغم أسعد/جريدة السفير/15-6-2016