إنّ الحب واقع وجوديّ خلّاق موجود عند تكوين كلّ إنسان، بغضّ النظر عمّا يمكن أن يكون عليه هذا الإنسان من جهة الانتماء أو الأخلاق والمعتقدات. هو دافع وجوديّ اعتبر بعض أهل الفلسفة أنّه متوفّر بالضرورة في كلّ كائن، بما في ذلك عوالم النبات والحيوان وما خلق الله، إذ بهذا الحبّ تتّجه الكائنات نحو كمالاتها التي خلقها الله لأجلها. ومن باب الأولى أن يتشارك الإنسان مع بقيّة الموجودات بهذه السمة الكريمة التي تمتاز عند الإنسان بمؤهّلات الوعي والإرادة الحرّة، ممّا يسمح للحبّ عنده أن يكون مسؤولًا في خلّاقيّته، بحيث لو راعى المرء بوعيه مصالح الحياة لكان الحبّ عنده سرّ الارتقاء الحضاريّ والسموّ الروحيّ، ولو لم يراعِ ذلك لأمكن أن يتحوّل الحبّ في انكماشاته إلى هدم كامل يطال كلّ شيء.
وللحبّ، كما لأيّ نزوعٍ إنسانيّ أودعه الله في أصل خلقة هذا الآدميّ، تفرّعات تنبني عليه وبموجبه، وقد رمز القرآن الكريم والأدبيّات الإسلاميّة للحبّ بـ"الشجرة" فأسمى ما يتفرّع عن الحبّ من خير بـ"الشجرة الطيّبة"، وهي معادل الكلمة الطيّبة {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}[1].
أمّا ما يتفرّع عن الانزياح عن الحبّ فهو الشرّ الذي مَثُله {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}[2].
ومن تفرّعات الحبّ مبدأ "التسامح"، إذ بدون حبّ خلّاق ومسؤول لا يمكن لنا أن نتحدّث عن تسامح. وفارق هنا بين الإهمال وغضّ النظر عن الأمور الأساسيّة، وبين التسامح. ففي الوقت الذي يُعدُّ فيه الإهمال واللامبالاة أمرًا أو أمورًا سلبيّةً، فإنّ التسامح أمرٌ إيجابيّ، وهو يعبّر عن مسؤوليّة تحفظ القيم والمصالح ومسارات السلوك الإنسانيّ الباني والبنّاء.
هذا، وممّا لا شكّ فيه، أنّ المصطلح قد مرّ بخطوط من التطوّر في المعنى والمؤدّى.
فهو في مناخ الدلالة الفلسفيّة الغربيّة انطلق من معنى التحمّل والاصطبار، ثمّ مرَّ بمعنى "منح الحرّيّة"، وقد ربط البعض بينه وبين "أصالة المنفعة"، والحقّ بالسرور الفرديّ وإشباع الرغبات الفرديّة حتّى لو أدّى الأمر إلى "التخلّي عن معتقداتنا الأساسيّة"، حسب ما ارتأى البعض. وقد نُقل عن كرستين موريس أنّه "عبارة عن سياسة التحمّل والصبر تجاه المرفوض وكلّ ما يفتقد الصلاحيّة في نظر المتسامح"[3]. وهذه الآراء، حسب ما يذهب إليه بعض الباحثين تجاه معنى وأهمّيّة التسامح، إنّما جاءت نتيجة ردّة فعل على مواقف الكنيسة في فترة محاكم التفتيش الدينيّة والعقائديّة. وقد اعتبروا أنّ تاريخ طرح فكرة التسامح يرجع إلى القرنين السادس والسابع عشر، ممّا مهّد لضرب الأحكام التعسّفيّة الدينيّة وبروز اتّجاهات دينيّة استندت إلى أفكار فلسفيّة جديدة واستندت عند جيمس ميلتون، وجون لوك، وستيوارت ميل، على فكرة التسامح، وأصرّوا على الدفاع عنها باعتبار أنّ عنصر المعرفة لا يتحقّق إلّا في المجال الاجتماعيّ وحرّيّة المنافسة. وهكذا، انتشت أفكار بفعل فلسفة التسامح، من مثل: النزعة الفردانيّة، والإنسيّة، والعقلانيّة المفرطة، والتعدّديّة، وصولًا إلى قيم التسامح الثقافيّ والليبراليّة.
أمّا في الأفق الإسلاميّ، فإنّا نكاد نجزم أنّ فكرة التسامح انطلقت من مفهوم العفو والرجاء الإيمانيّ، وأنّ على الإنسان أن يمارس فعل العفو على الأرض ومع الناس، كما أنّه يطلبه من ربّ السماء، وارتبط هذا المفهوم بالبُعد الأخلاقيّ، وكان نقيضًا لمفهوم "الفظاظة"، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[4]. كما ارتبط بالسلوك الاجتماعيّ-السياسيّ، كما جاء في الحديث النبويّ الشريف "آلة الرئاسة سعة الصدر"؛ أي القدرة على التحمّل وتحمّل من نختلف معه. وفي زماننا هذا، شهدت الساحة الثقافيّة في بلاد المسلمين نقاشًا حول الدين والتسامح في قِبال ظاهرة العنف، حتّى اختلط عند البعض مفهوم الجهاد والمقاومة فاعتبرهما من مظاهر العنف ليدافع قوم عن العنف تحت مُسمّى الجهاد والمقاومة، وليرفض آخرون الجهاد والمقاومة باعتبار أنّهما ضدّ التسامح، وأنّ الإسلام دعا للتسامح.
وإنّي إذ أعتقد أنّ التسامح في مفهومه الإسلاميّ المعاصر هو ضدّ التكفير؛ بمعنى إلغاء الغير، فإنّ التسامح في أصل مبناه مبنيّ على قيمتين إسلاميّتين قدّسهما الإسلام:
القيمة الأولى: هي العفو، إذ اعتبرت النصوص الإسلاميّة أنّ العفو قيمة هي بالأساس نابعة من اسم من أسماء الله الحسنى "العفُوُّ".
القيمة الثانية: فهي أيضًا نابعة من أسماء الله، الذي هو "القادر" أو "القدير"، وإنّ القيمة النابعة من هذا الاسم هي "المقدرة". وقد لخّصتها النصوص الإسلاميّة بفعل سلوكيّ مطلوب من أهل الإيمان تجاه من يختلفون معه وهو "العفو عند المقدرة". وهذا ما يطيب لنا تسميته بـ"نهج الاقتدار"؛ وهو عبارة عن نهج من القوّة المسؤولة والرحيمة القادرة على إصابة العفو حيث تقدر على إصابة الآخر بالإيذاء، وذلك بسبب أنّ من شيم الإسلام الرحمة. وما الجهاد أو المقاومة في مضمونها إلّا تفرّعًا عن هذا التسامح القائم على الحبّ لله والحقّ والإنسان في كرامته.
ولعلّ أخطر ما يواجه الأديان اليوم، ومنها الإسلام، هو تغليب منطق المباشرة والراهن والظروف الطارئة القلقة في بناء المصالح الأنانيّة، على القيم والثوابت الإلهيّة والإنسانيّة.
الشيح شفيق جرادي
[1] سورة إبراهيم، الآيتان 24 و25.
[3] راجع، علي أكبر نوائي، "نظريّة التسامح: إشكاليّات في المبادئ الفكريّة والتأثيرات العمليّة"، ترجمة محمّد عبد الرازق، في: مجلّة نصوص معاصرة، العدد 28 (خريف 2012م- 1433هـ)، الصفحة 218.
بتوقيت بيروت