منذ أيام قليلة فقط، وأثناء مراقبة الامتحانات للصفوف الثانوية، صودف أن الطلبة كانوا يُمتحنون في مادة الجغرافيا، وكنوع من تبسيط الأمور لجعلهم ينالون علامةً مساعِدة، قدِّمتْ لهم خريطة العالم العربي على بياض، وكان المطلوب أن يكتب الطلاب اسم كل بلد عربي مع عاصمته بشكل صحيح على الخارطة!.. وكانت المفاجأة كبيرة حين رأيت ضَياعهم وخيبتهم أمام الورقة .. شباب يقتربون من عامهم الثامن عشر، لا يعرفون ما هي عاصمة الأردن ولا المغرب ولا تونس ولا الصومال، علماً أن موضوع العواصم بالتحديد يتم تدريب بعض الأطفال على حفظه بشكل ببغائي.
البناء المعرفي
المقصود هو أنه إن لم يتعلم الطلاب أسس الحفظ المنطقي لن يكون باستطاعتهم أن يكملوا البناء المعرفي والعقلي لديهم. فالطالب الذي لا يحفظ جدول الضرب كمثال آخر لن يتمكن من حل المسائل الرياضية والحسابية أيضاً.
نعم، منظومة الحفظ قد "لا" تؤتي أكلها حين يُطلب من الطلاب حفظ المعلّقات الشعرية مثلاً (مع أن الأمر ينطوي على فوائد لغوية كثيرة) أو حفظ أمور مشابهة لا تسمن ولا تغني من جوع، ولكن في علوم أخرى لا بدّ للطالب اللبيب أن يحفظ درسه.
فكل أدبيات التاريخ تذكر لنا كيف كان الملوك والخلفاء والحكّام يأتون بالمعلمين لأولادهم، وكانت مهمة المعلّم في بعض مواضعه أن يجعل تلميذه حافظاً لما يقدمه له من علوم أدبية وتاريخية وجغرافية ودينية وفلكية ورياضية، وبعد الحفظ وتَخمُّر المعلومة جيداً في عقل الطالب، تبدأ المرحلة الثانية التي يتميز فيها طالب عن سواه بكيفية إخراج واستنباط وتوليد المعلومات الجديدة.
الحد
الأدنى
يقول كثيرون: "ليست مهمة المدرسة حشو عقول الطلبة
بالمعلومات، بل حثّهم على التفكير والإبداع. ولكن أي تفكير وإبداع سيحقّقون إن لم
يملكوا قدراً أدنى من معلومات ومعارف تكون من الثوابت في عقولهم وذاكرتهم؟ يتردد
دوماً أن مدرسة التلقين والحفظ لا تهيّئ رجالاً أكفّاء لمواجهة الحياة، بل تحضّر
لوظائف حياتية لا تتطلب جهوداً ومبادرات ذاتية وشخصية.
وقد يبقى الرجل
من عمر الشباب إلى عمر الستين في عزلة عن أي تطوير لقدراته العلمية والمعرفية في
التعامل مع الأمور، قد يكون هذا صحيحاً وواقعياً، لكنه أمر طبيعي في كل المجتمعات
سواء أكانت عربية أم غربية، لأن الطالب المتميز بالذكاء والعقل والتفكير هو غالباً
طالب لا ينتظر منهجية أساتذته، بل يعمل وفق إملاءاته الذهنية الخاصة، يلاحظ أو
يكتشف أو يجرّب أو يستنبط.. إلخ.
فالمطلوب من المعلمين والأساتذة تعويد الطلبة على تحفيز التفكير، على الاستنباط من تلقاء أنفسهم، على وضع الخلاصات العلمية، لكن الطالب لن يحقق هذه الأمور إن لم يكن سابقاً قد وَعَى وفهم وحفظ الأساسيات، لينطلق بعد ذلك نحو التفكير الحر والاكتشاف وصوغ المعادلات الذاتية التي ربما يفوق فيها معلّميه في كثير من الأحيان، فالقدرات العقلية لا ترتبط بالعمر!
خصوصاً أن معلّمي هذا الزمن يواجهون
عدواً شرساً يتمثل في وسائل وتقنيات التواصل الحديثة.
هذه التقنيات
تستطيع أن تأسر الطالب والتلميذ لساعات وساعات يومياً من دون أن يستطيع الإفلات من
قبضتها، على النقيض من الوقت المخصص للدراسة الذي يتضاءل ويقلّ مقارنة بها. وهذا
يجعلنا نلاحظ تشظّي تركيز الطلاب نحو مجالات أخرى...
شخصية
الطالب
لا يمكن أيضاً أن نغفل نقطة أساسية ومهمة تتمثل بالتكوين الفردي لشخصية الطالب وقدراته العقلية والعلمية والسلوكية.
فالواقع التربوي يشير إلى نموذجين: نموذج طالب يأتي للدراسة مرغماً ويفتعل المشاكل الدراسية والسلوكية ولا يريد أصلاً أن يدرس، بغضّ النظر عن الوسائل والطرق التي يتم بها التعليم، وهناك نموذج الطالب الجدّي والمجِدّ الذي يرفض أن يضيّع دقيقة واحدة بشكل عبثي، فحتى لو قصّر المعلم تراه يبحث ويقرأ ويحاول التعويض من تلقاء نفسه.
ما نعنيه هو أن طرائق التعليم ليست الموضوع الوحيد في القضية، فهي جزء من كل، تتقاطع مع استعداد الطلبة، مع سلوكياتهم، مع شخصية المعلم، مع البناء الهندسي للمدرسة، مع سلطة الأنظمة والقوانين السائدة في المدرسة... إلخ
نعم لا يختلف اثنان على أن التعليم في القرن الواحد والعشرين، لم يعد مجرد سرد أبيات قصيدة طويلة لشاعر كبير، ولا التباهي بالقدرة على الخطابة، أو كتابة المعادلات الرياضية أو الكيميائية وحفظ التعريفات العلمية من دون القدرة على استيعاب أهميتها، لكن هذا كله لا يمنع من القول إنه حينما تتأمل ملياً أسئلة الامتحانات التي قُدّمت للطلاب في كل صفوف المرحلة الثانوية مؤخراً، يهولك ويصدمك مستواها المتراجع، لقد كانت هذه الأسئلة تطرح في سنوات سابقة على طلبة المرحلة المتوسطة!!
كأستاذة في المراحل الثانوية وأستاذة جامعية أيضاً، أفكر كثيراً في معنى جعل الطالب قادراً على التفكير العلمي الذي يخوّله حلّ الأمور بعقل ومنطق، وتحليل وتفكيك بعض الجزئيات، لكني أصاب بالصدمة الكبرى حين أرى أولاً أن معظم هؤلاء الطلاب ليس قادراً على كتابة بضعة أسطر بلغة عربية سليمة! فليعرف طلاب اليوم كيف يكتبون بلغة سليمة أولاً، ثم يقررون إن كانوا يريدون الحفظ أو التحليل ثانياً.
فاطمة بري/ العربي الجديد
بتوقيت بيروت