عبد الرحمن جاسم
كاتب فلسطيني مقيم في لبنان
كنتُ في الثانية عشرة من عمري يوم شاهدت صورة سيد شهداء المقاومة الإسلامية الشهيد السيد عباس الموسوي. يومها لم أقع في حبه، ولم أشعر تجاهه بأي شعورٍ سوى عدم الفهم. أنا الذي نشأتُ في منزلٍ عروبي يساري لم يعنِ لي الرجل شيئاً أبداً. كان مشهداً متلفزاً للسيد يخطب في مسجدٍ ما، حوله رجالٌ بشعور نافرة متأهبون وهم على عجلٍ كما لو أن شيئاً جللاً سيحدث. عرفته أكثر حينما شاهدتُ صورته معلقةً على طريق مدرستي مكتوبٌ تحتها جملته الشهيرة: "سنخدمكم بأشفار عيوننا". لم أفهم الجملة أول الأمر، لكن غرابتها لفتت نظري، فاستعمال كلمة "أشفار" وليس أي شيءٍ آخر، كان "مبهراً" بحق. كانت علاقةُ الفلسطينيين بإيران سيئةً للغاية داخل المخيّم. كانت حربُ المخيمات قد انتهت قبل مدّة، وأهل المخيّم يتوجسون ريبةً من أي أحدٍ غير فلسطيني. كان بناء العلاقة مع الفلسطينيين أمراً شاقاً في تلك الفترة: كانت إحدى القنوات تنقل خطاباً للسيد، وكنت أجلس في منزلي بصحبة أقاربٍ لنا، وكعادة الفتية في ذلك العمر، أطلقت تعليقي الخاص الذي بالتأكيد كنت سمعته في مكانٍ ما هنا أو هناك: "هلق الإيراني هادا صار كمان بده يعلمنا المقاومة!". حدجتني أمي بنظرةٍ نارية. المرأة القادمة من بيئةٍ مقاومة يسارية (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) انتظرت حتى رحيل الأقارب وهرعت ناحيتي: "ولك كيف بتقول هيك؟ انت ما بتفهم؟". أنا الذي لم أفهم أبداً عماذا تتحدث، سألتها بإمعان: "شو قلت ليش؟". انطلقت والدتي تتحدث: "هادا اللي لابس عمامة سودا، سيد، يعني جده رسول الله(ص)، يعني عربي أباً عن جد، كيف بتقول عنه إيراني؟ بعدين شو مالهن الإيرانية؟ أنا مش قلتلك قبل هلق أيا حدا بيقاتل إسرائيل احنا معه؟ انت ما بتستحي؟ إنت ما بتفهم؟".
حاولت أن أفهم من والدتي أكثر. حكت لي يومها أن البندقية المقاومة هي أصل الأشياء، وأن من "يحارب الصهيوني" نعطيه عيوننا، وأن "الدم أثقل المعادن" ومن يضعه في محاربة "الصهيوني" يحق له أن يقول ما يشاء وفوق كل هذا أن يحتل عرش القلوب. لم أفهم كثيراً ما قالته أمي، لكن انفعالها الشديد وغضبها جعلاني مصمماً على أن أعرف أكثر. في مدرستنا كان لدينا أستاذ دين، كان هذا الأستاذ لا يعرف كثيراً في الأمور الدينية، لكنه كان يعشق المقاومة. اقتربت منه، وأنا الذي كانت علاقتي به "متضاربة" على أقل تعبير، سألته عن السيد عباس. نظر إلي باستغراب وأجابني. سألت أكثر، فأجابني أكثر، إلا أنه تنبه في لحظةٍ ما أنه حكى أكثر من اللازم فصمت. فسألته إن كان يقابلني. قال لي الأستاذ وقتها: من يقابلك؟ قلت له: السيد عباس الموسوي يقابلني أنا. فضحك قائلاً: لا أظنه يفعل، ليس لأنه لا يريد، لكن لأن وقته ضيقٌ. يومها عدتُ إلى المنزل بعد أن "سرقت" صورة السيد عباس من على الطريق: نزعتها بكل هدوء، حملتها ومشيت.
عرف كثيرٌ من أصدقائي عن "افتتاني" ذلك بشخصية "السيد"، كانت صورته –التي باتت معلقةً في غرفتي- تتوسط تشي جيفارا، مالكوم أكس، وديع حداد، وبالتأكيد جورج حبش. وذات يوم طرق أحد أصدقائي باب غرفتي بقوة وغلظة، فتحت بغضب فأجابني سريعاً: ""السيد" بالشارع اللي فيه المنار، هيك ماشي مع العالم". أنا الذي كنت أحلم بلقاء أيٍّ من "القادة العظماء" لبستُ على عجلٍ شورتاً قصيراً و"تي شيرت" رياضة قديم، ونزلتُ بسرعةٍ فائقة. كانت حشود الناس تعصف بالمكان، حاولت الوصول إليه بشكلٍ أسرع، لم أستطع. فحينما وصلتُ تنبهت فجأة إلى أن الناس قد بدأت بالتفرّق. كان السيد قد غادر للتو. وقفت غاضباً. لم أعرف ماذا أفعل. فجأة تنبهت إلى أن "شكلي" كان غريباً إلى حدٍ كبير: فتىً بثبابٍ صيفية في يومٍ شتائي بارد.
بعد تلك الحادثة بأشهرٍ عدة، كنت قد جمعت خلالها صوراً وخطاباتٍ وكلماتٍ للسيد، وتحديداً في 16 شباط 1992 ، علمتُ أن السيد استشهد. اعتقد كثيرٌ من أصدقائي أنني سأبكيه، وأنني "فعلياً" سأنزوي في منزلي حزناً عليه. فعلتُ ذلك أول الأمر لم أصدق الخبر، أردتُ تكذيبه، لكنه كان حقيقةً. كُسرَ شيءٌ في داخلي، لكنه سرعان ما توشى بنورٍ آخر: فأنا كنت قد فهمتُ السيد عباس، كنت قد سمعته مراراً، وقرأته أكثر: كان السيد شهيداً كما أراد وكما يريد كل المقاومين الشرفاء. كان يعرف طريقه، يعرف وزنها وثقلها، فاختارها واختارته، أحب الشهادة كما أحبته. يوم استشهاده كتبت على صورته المعلقة في غرفتي شعراً للأرجنتيني خوسيه لويس بورخيس: إننا نخضب –كل يومٍ- هذه الأرض دمانا، فتزهر كل الألوان. أيعرف أحدٌ كم نحبها؟ ذلك ليس أمراً مهماً، المهم أننا –وهي- نعرف.
مــوقع المقاومة الإسلامية - لبنان
بتوقيت بيروت