اتّصل بها ابنها البكر- ابن الثلاثة عشر عاماً- نهار العيد كي يطمئنّ عليها، ويُفرحها بإسماعها صوته.. فسألته بعد الترحيب الحنون:
- أخبرني يا حبيبي، هل اتّصل الشباب الذين هم معك بأهلهم؟
- لا يا أمي..
- إذاً, لماذا اتّصلت أنت؟ وكيف تمنح لنفسك بهذا الامتياز؟!
ثم أضافت باستنكار مؤلم:
- لإنّك ابن السيّد عبّاس؟
لا تفعلها مرّةً أخرى يا ولدي!
كاد ياسر أن يبكي من تأنيب أمه له، فأخبرها بأنّ من في العمل اتّصل بالمركز القريب من بيت أهله، وسأله إن كان يريد التحدّث مع أمّه، فأومأ بال"نعم"... وأنه لم يمنح لنفسه أي امتياز، فهو كغيره وإن كان نجل السيد عباس الموسوي.
صورةٌ من مشاهد عديدة، تنقل في صفحات كتاب"الوصول"، للكاتب السيد عبد القدوس الأمين، سيرة الشّهيدة أم ياسر، زوجة السّيد عباس الموسوي، إصدار جمعية الرابطة اللبنانية الثقافية، ضمن مشروعٍ لتخليد دور المرأة المقاومة.
هكذا، سمح لنا الكتاب بأن نرى "أم ياسر" تحت المجهر، بعد أن استترت لسنواتٍ طويلةٍ، في عباءة زوجها الشهيد، فظهرت في الكتاب حياتها، فصولاً وحكايات، وهي تساعد زوجها وتعينه، في التّأسيس لتحرير الأرض والفكر.
إذاً، تكلّمت "أم ياسر" أخيراً، أمام التاريخ، وأمام أجيالٍ جديدةٍ تتلّهف لمعرفة تفاصيل حياة السيّد عباس، فأخبرَت "سهام"، على لسان كلّ من قابلهم الكاتب، كيف كانت تعيش حياتها البسيطة الهادفة، مع زوجها الأمين العام لحزب الله، مستفيدةً من كل اللحظات والأيام، لتصنع التغيير في المعتقدات والحياة.
بداية الحياة الزّوجية
تساءلت "سهام"، ابنة الخامسة عشر، عن تلك الفتاة التي سيختارها السيّد عباس القادم من النجف كي يتزوّج. ولم تكن تظنّ أنّ الاختيار سيقع عليها، فرفضت في البداية قائلةً: " أنا أتزوّج رجل دين؟!".
لكنّ رأيها سرعان ما تغيّر بعد أول جلسةٍ على انفرادٍ مع السّيد.. لا تعرف بالضبط ما الذي جذبها وشدّها اليه، حديثه أم ابتسامته أم روحه.. كلّ ما تعرف أنّها تريدُه. وسرعان ما أضحت"زوجة السّيد، والسّيد لا يفارقها، ولا تفارقه بسمته". وبعد شهرين، سافر الزّوجان الى النجف، مع "منيرة"، أخت السّيد.
في النجف
سألت الجارةُ
"أم ياسر" عن أصوات الضحكات التي سمعتها بالأمس، فأجابت:
- كان عم يرشّ علينا السيّد ماء من
البركة..
- عنجد؟ السّيد؟
- إي، وعملنا مرجوحة كمان..
كانت صورةً مستغربةً لـ"رجل دين" يمد لزوجته وأخته حبلاً من طفولة، ويشاركها فيه، كي يمضيا وقتاً جميلاً تملأ الضحكات فيه جدران الغربة، وتطغى على آلام البعد عن الوطن.
فالسّيد كان الزوج الحنون" الذي يفيض من عينيه حنان الأبوّة" الحاضن لزوجته في كل تفاصيل حياتها، كما قال لها: "سأكون معك خطوةً خطوةً، اعتمدي عليّ فلن أهملك أبداً".
وبداية الحياة في العراق لم تكن سهلةً على امرأةٍ حديثة العهد بالزّواج، صغيرة السّن، رقيقة الحس، يربطها مع قريتها الكثير من مشاعر الانصهار والتعلّق بالعائلة والأحبة.
بيد أنّ تلك الحياة أضحت في فترٍة
يسيرةٍ، ميدان كفاحٍ لزوجة سيّدٍ ينظّم وقته بدقةٍ متناهية، فـ"يخرج من منزله
عند أذان الصبح، يعود وقت الضحى لبعض الوقت، يتناول الطّعام، ينام قليلاً، حتى إذا
استفاق يجالسها قليلاً مع فنجان شاي، وبعض النّوم في عينيه، فيبدو أكثر جمالاً من
أيّ وقت. تنظر اليه سهام على أنّه رجلٌ يستطيع ملامسة شغاف القلب في كلّ
أحواله".. ثم يخرج للدرس والمباحثة، وحين يعود من صلاة المغرب، يحين موعد
مراجعة الدروس، فيذهب الى زملائه أو يأتون اليه..
- مش عندك طلاب بالمدرسة اللبنانية بعدن جداد وعم تعلّمن؟
- اي..؟
- اعتبرنا أنا ومنيرة من طلابك..
وهكذا صنعت من زوجها صورة المعلّم
الجاد، تحاول فهم كل ما يقول، وتشرح لـ"منيرة" بعض الأفكار، حتّى قال
لها يوماً:
- مش معقولة أنت!
خافت وارتبكت، لكنّه أوضح:
- أنت من أحسن بعض طلابي..
ووجدت نفسها هناك، في طلب العلم
الذّي سخّرت له طاقتها، حتى أصبحت المرأة الأولى هناك التي تدرّس فقهاً وأصولاً
وعقيدةً ونحواً، دون أن تهدر الوقت بين قصص النساء عند الصباح..
ونظّمت الزوجة وقتها،
وقسّمت مهام عملها على أيام الأسبوع، ما بين طلب العلم وتفقّد أحوال الأقارب
والمعارف، واستضافة الجارات، وعمل المنزل، وزيارة مقام أمير المؤمنين علي(ع).
وراح السيد "العارف
الحنون، والأب والأخ" يعينها، ومن الأمثلة على ذلك، أن حدث ذات مرةٍ، حان
موعد الدرس، لكنّ قنينة الزيت انسكبت في البرّاد فتلوّث بما فيه، وتسرّب الزيت الى
أرض المطبخ فلوّثه.. وقفت أمّ ياسر تنظر الى المشهد الذي سيمنعها من ذهابها الى
الدرس، فجاء السيد عباس وقال لـ"سهام" و"منيرة":
- حان وقت الدرس.. أم تراكما مللتما من الذّهاب؟
- لا يا سيّد، ولكن انسكب الزيت
ولوّث المكان..
- البرّاد لاحقين عليه.. الدرس أهم..
وبعد إصرار السيد وتردّدها ذهبت للحضور، وجاءت على عجلٍ الى المطبخ لتبدأ بمهمة إزالة الزيت، فرأت الأرض نظيفةً كأنّها لم تُلوّث، ولا أثر للزيت في المكان، فتأثّرت" من رسالة الحب والعطف التي أرسلها السيد إثر هذا العمل، رغم وقته الضّيق المحسوب بدقة".
وعن الطّبخة الأولى في الحياة المشتركة، تتكلّم سهام وتضحك، كيف كانت تضع الفاصولياء على المائدة بفرح، وتروح تراقب السّيد وتتابع ابتسامته وهو يأكل، لكنّها عندما أكلت شعرت أنّ ثمة طعماً غريباً، وهذه الطبخة لا تشبه تلك التي تعدّها أمها، لكنّ زوجها لا يبدي انزعاجاً، ورأته يضع الملح على الطعام، فقالت معتذرة:
- نسيت الملح..
- بسيطة.. أحسن ما تكون مالحة، هيك
كل واحد بحط ملح على ذوقه..
وتابع وهو يأكل برضا، يبتسم
شاكراً بين لقمةٍ وأخرى، وهي تنتظر أن يقول شيئاً عن الطعمة الغريبة، الى أن جاءت
منيرة، وفورما أكلت قالت بامتعاض:
- الطعم غريب!
فقالت سهام:
- إي.. من شو؟؟
نظرت سلام الى زوجها فابستم وهو
يتابع الأكل قائلاً:
- بسيطة.. حطيتو بقدونس بدل
الكزبرة.. انتو شاطرين لدرجة انو اخترعتم أكلة جديدة..
ومع الوقت صارت تعرف ذوقه في كل الأمور، ولأنّه لا يأكل كثيراً جعلها تهتمّ بنوع الطّعام وفائدته لتساعده على الاهتمام بصحّته، كأنّ إحساس الأمومة ولد في قلبها تجاهه، فهو يتعب كثيراً، لا يراعي نفسه ولا يسأل عن راحته أبداً، فراحت هي تهتم بكل التفاصيل المتعلّقة به، تعرف ما يريد وماذا يريد، ويخفق قلبها بشدّة عندما يقول:
- عم تعبك معي..
- .....................
زينب صــالح
مــوقع المقاومة الإسلامية
بتوقيت بيروت