ما الذي تشتاقينه تحديداً في والدك الحاج عماد مغنية؟ نسأل فاطمة، تصمت، تشعر كأنها استحضرت الحاج رضوان أمامها، وتجيب "صمته الجميل، أشتاق لصمته الجميل، تحديداً الى حضوره وسحره، كنت احب النظر اليه، كثيراً ما أشعر اني بحاجة لاستعادة هذا المشهد وهذه اللحظة"، تتباع بثقة : "هؤلاء هم رجال الله". تدرك فاطمة انها ورثت عن والدها الكثير من تقاسيمه، "نعم اشبهه كثيراً"، تقول، "وجهاد كان يشبهه ايضاً"..
في منزلها استقبلتنا فاطمة، عقب مكالمة هاتفية سريعة اتفقنا خلالها، على موعد، على حديث عن "الحاج رضوان". بكثير من اللباقة والثقة استقبلتنا، بابتسامة هادئة تحتفظ بين طياتها بوجع الفقد: فقد الأخ "والصديق الذي كنت أنا الأقرب اليه"، والأب، تحديداً منذ سبع سنوات، حيث كان اللقاء الأخير.
اللقاء الأخير
إلى هناك، تعود فاطمة عماد مغنية. كأن تفاصيله تمكث في وجهها، تبتسم، تتحدث عن فنجان "نسكافيه" شربه وقتها والدها "كله وبسرعة مع أنني أعدته لنفسي، وسبق أن سألته إن كان يريد ، فقال لي لا ". حدث ذلك ليل السبت في التاسع من شباط/فبراير 2008، "أي قبل يومين من استشهاده، فهو قد استشهد يوم الثلاثاء"، تصمت فاطمة قليلاً وتستدرك "تماماً كأخي جهاد، رأيته للمرة الأخيرة يوم الخميس واستشهد يوم الأحد"، ثم تعود بشوق لسرد تفاصيل اللقاء الأخير مع والدها "زارني في منزلي يومها مع أمي وسهر معي، شاهدنا وقتها مسلسل سوري كوميدي وضحكنا كثيراً".
ذكريات
"لقد دفعتني للبحث بين ذكرياتي"، تتمتم فاطمة وهي تبحث في غرفتها عن تذكار من والدها طلبناه منها لارفاقه بنص المقابلة، ثم تنظر إلى أحد جدران الغرفة حيث علّقت صورة لها برفقة والدها عندما كانت طفلة، تنزعها برفق وتقدمها لنا. بقرب تلك الصورة صورة قديمة اخرى لفاطمة برفقة اخوتها ووالديها، تنظر اليها وتعلق بالعامية "هيدا الأشقراني الصغير جهاد"، لكنها تعتذر عن نشرها بسبب وجود والدتها في الصورة. من هنا يبدأ الحديث عن الطفولة.
طفولة استثنائية لطفلة لم تدرك حتى كبرت "أنني ابنة المعاون الجهادي في حزب الله". تروي فاطمة كيف كانت الأم ترد على السؤال الأصعب: "وين بابا؟"،"وقتها كانت تربط الوالدة كل شيء بشخص الإمام المهدي (عج)، كأن تردد أمامنا والدكم لن يأتي حتى يظهر صاحب الزمان"، ثم تتابع "لقد زرعت فينا نوع من التقديس لعمل الوالد لتنطلق من ذلك للإجابة على اسئلتنا الكثيرة". تحدثنا فاطمة كيف بات "أمن والدي" جزء من نشأتها واخوتها وسلوكهم،"كانت أمي تردد على مسامعنا، لا يجوز تأخيره عن عمله، لا يجوز أن نسأله عن وجهته، أو أن نسترق السمع إلى محادثة له على الهاتف الخاص في أحد غرف المنزل، وقد اعتدنا ذلك حقاً".
مع أنها لم تدرك ماهية عمل الوالد حتى أصبحت في سن معين، "لكنني أدركت باكراً أنه مطلوب لأكثر من جهاز استخبارات في العالم، وذلك لمعرفة كيفية التصرف ازاء أكثر من أمر"، تشرح فاطمة لنا، متحدثة كيف أنها واخوتها تحملوا مسؤولية حماية الحاج عماد منذ الصغر، "كل حياتنا كانت مبنية على أن لا تظهر أي صورة له. صوره وصورنا معه كانت مخبأة دائماً، كانت التعليمات دائماً بـأن لا نلتقط له صوراً بشكل عبثي، وأن نتأكد أن ما من أحد قد التقط له صورة عند حضوره دون علمه، كان الحفاظ عليه جزء من مهامنا، كنا دائماً متنبهين إلى أن ما من أحد قد لحق بنا، حتى عنوان منزلنا كان دائم السرية. في مرحلة ما كان منزلنا عبارة عن غرفتين ضمن مركز، ورغم هذه المصاعب استطاعت أمي أن تخلق جواً ايجابياً، كنا سعداء كثيراً في تلك الأيام".
وعن لحظات الفرح، تستذكر فاطمة "المشاوير" مع الوالد في السيارة، وأناشيد "مع الفجر قوموا، وشاهراً سيف الحسين، كنا نرددها سوياً، كان صوت والدي جميلاً".
علاقة استثنائية
هذه التفاصيل الاستثنائية رافقت فاطمة في يومياتها، عندما اصبحت أكثر نضجاً تُكمل فاطمة "وبحكم شخصية والدي واسلوب علاقتي به التي لم تقف يوماً عند حدود التفاصيل اليومية، كانت دائماً ابعد من ذلك بكثير، حيث كانت اسألتي الموجهة اليه تتمحور حول: ماذا سيحدث؟ كيف ستتصرفون كمقاومة حيال هذا الأمر؟"، هنا تظهر على وجه فاطمة علامات الحسرة "لو بقي معنا، كانت احاديثنا لتأخذ منحى أكثر عمقاً، كانت لتتخذ بعداً عقائدياً ووجدانياً، أحتاج اليه في هذا الجانب". هذه الحسرة تقاسمتها مع شقيقها جهاد، كما تسرّ لنا، قائلة "كان يقول لي جهاد انو بشرفك اختي لو بيي هلق هون، كم كان ليفرح في هذا الموضوع، كم كان ليفرح لأننا اصبحنا أكثر نضجاً ووعياً"، موضحة "لأنه عند استشهاد الحاج عماد كنا لا زلنا اقل نضجاً خصوصاً جهاد".
المدرّس
عند سؤالها عن مزيد من الذكريات مع الوالد القائد، تروي لنا كيف أن الحاج رضوان أنقذها من فكرة الذهاب إلى الجامعة "لتقديم امتحان في مادة علم الإدارة سنة اولى علوم سياسية، لم أحضر له مسبقاً، وقتها اخذ مني متن المادة وقام بتلخيصه في الليلة نفسها، استدعاني الى أحد اماكن العمل التي كان متواجداً فيها، كان هناك لوح استخدمه ليشرح لي المتن، واصبحت جاهزة لتقديم الامتحان في اليوم التالي" وهكذا حصل. هذه الحادثة تذكّر فاطمة "بميزة الإبتكار، التي كانت شغفه الدائم، كنت عندما اسأله أين متن هذه المادة أو هذه الدورة كان يقول لي إنه هو كان يضع متنه الخاص، كان يريد أن يضيف شيئاً دائماً وهنا كان يجوهر عماد مغنية"، وتعلق "كان يضيف حلو".
لبن امو وحمص بطحينة
لحظات من الصمت وتحضر حادثة أخرى، تنفعل يدا فاطمة، "لقد حضر حفل زفافي بأكمله، التقط بعض الصور معي، لكنني كنت قلقة على سلامته، نسيت أنني عروس، كنت اراقبه واراقب كل فرد من الحضور لأتأكد أن ما من أحد التقط له صورة".
أثناء حديثنا مع فاطمة عماد مغنية، نصر على الحصول على تذكار للقائد العسكري الكبير، تعدنا بالمحاولة، ثم تسرع وتجري مكالمة هاتفية، لتخبرنا بعدها أنها ستجلب مصحفاً من غرفة نوم الشهيد جهاد "كان هدية من السيد القائد علي خامنئي لوالدي". ثم تتابع حديثها معنا عن ماذا يحب الوالد؟ وماذا يكره؟، تضحك وتؤكد أنه "كان يكره الدخان والنرجيلة كثيراً، كان يحب اللبن امو والخبز المحمص مع الجبنة والشاي، والقريدس، والحمص بطحينة، الموسيقى كانت شغفه إلى جانب المقاومة طبعاً، ليس هناك من موسيقى معينة، الموسيقى الجيدة، كان يحب آلة الكمان كثيراً".
أحدثه ويجيب
تؤكد لنا فاطمة أن الموت لم ينه علاقتها مع والدها ولا حتى مع شقيقها،"أشعر بهم يومياً"، هم "أحياء ولكن لا تشعرون، عندي يقين بذلك"، تضيف "كنت أمام سؤال عقائدي ذات يوم وكنت بحاجة لإجابة منه، فتحدثت اليه وأتاني الجواب عبر شخص آخر، وكان في الجواب روح عماد مغنية"، تخبرنا أنها "رأته أكثر من مرة في الحلم وتحدثت معه وقبلته". تقرّ فاطمة أنها تشعر بمسؤولية كونها ابنة عماد مغنية، مشيرة إلى أنها "يجب أن أكون دائماً مصدر عطاء، يجب أن أتعلم حب الناس، أن لا أكون سريعة الغضب، وأن ارى الناس دائماً واتحدث اليهم".
لو اتيح لك الجلوس مع والدك ماذا ستقولين له، نسأل، فتجيبنا "كنت لأحب أن ابحث معه في الشأن الثقافي، ربما لأني احب أن يتطور مجتمعنا في هذا الجانب تحديداً، أحب أن يكون لدينا ثقافتنا البديلة التي قد نستطيع أن نواجه بها الثقافة الغربية، كنت لأبحث معه كيفية أن تحاكي الحوزة الدينية واقعنا اكثر، وأن تصبح المواد المدرسة فيها أكثر سلاسة وقرباً من ادراك عامة الناس".
عدوي لن يذوق الطمأنينة
حتى بعد استشهاده، لم تفقد الابنة الأمان الذي يمنحه وجود الوالد عادة لابنته، تؤكد أنها "في وجوده وفي غيابه كنت ولا زلت أشعر بالأمان، أشعر أن عدوي لن يذوق الطمأنينة".
هنا ينتهي الحديث مع فاطمة. نشكرها، فتسارع للاعتذار قائلة بالعامية "لحظة، بس ما ضيفتكن شي"، اجبناها "لقد أخذتنا متعة الحديث عن القائد"، تصر على أن نتناول لو قليلاً من التمر والجوز، وتشيعنا بابتسامة تشبه ابتسامة الحاج رضوان إلى حد كبير.
مـوقع قناة المنار
سمية علي
بتوقيت بيروت