هنا تحفظ الأرض مواطئ قدميه، وتميّز الأشجار بصمات يديه، حاضنًا أثير الجنوب والبقاع الغربي. هو الطفل المتمرّد على قدره، ذاك الذي خاض لُجج قتال عدوه الصهيوني ثم التكفيري، فأعيى خيرة النخب قبل أن يستكين مسلّما الأمانة لأجيالٍ تتخرّج من مدرسة جهاد قارب الثلاثين عامًا. هو القائد "ابراهيم محمود الحاج"، الملقّب بـ"الحاج سلمان"، مَنْ قالت فيه قيادة المقاومة الإسلامية بعد استشهاده، أإّه من خيرة القادة الميدانيّين الذين تدين لهم انتصاراتها بالكثير.
منذ استشهاده في أراضي الدفاع المقدّس، وبيت أهله في "قليا" يعجّ به، صورًا في قلوب من عرفوه وعيونهم، مثالًا للخُلق الحسن والسمعة الطيبة. في ذلك البيت الدافئ، تخاله سيخترق الغياب، ويفاجئ الجميع بأنّه ما زال يتفقّد أمورهم، ويتابع شؤون أولاده الثلاثة، ويحثّ زوجته على المضي قدمًت في دربٍ رسمه لها ولعائلته في الجهاد بكل أنواعه. فأيام قليلةٌ من عمر غيابه ليست كافيةً لاستيعاب رحيل من لم تعتد عائلته عليه إلا "حاضرًا في أبسط التفاصيل وأدقها، مع غيابه المتكرّر والطويل" وفق ما تقول زوجته، فكان" الزوج الوفي والأب المثاليّ، والابن البار والجار الوفي، والملاذ لكل من عرفه".
هكذا،" فُتِح كتاب الحاج سلمان، المجاهد والقائد والحبيب، بعد سنواتٍ طويلةٍ من التّكتّم. إذ لم يكن يخبرنا عن أيٍّ من تفاصيل عمله أو إنجازاته. لكنّنا بتنا كل يوم نسمع بطولة من بطولاته"، تقول زوجته "أم محمد" متحدثةً عن شريك حياتها. وتضيف:"بنى العائلة وزرع فيها مبادئ الأخلاق والمقاومة، واهتمَ بكل تفاصيل أولاده بحنانٍ عارمٍ وحكمةٍ في الرعاية والتدبير. فكان يتابع تفاصيل دراستهم، وأدائهم في المدرسة، وتحصيلهم للدورات الثقافية والدينية مع كثرة انشغلاته". وعن اجتماعياته يقول أحد المقربين منه: " الحاج سلمان إذا أتى يومًا واحدًا من عمله، يقسّم وقته بين عائلته وأهله وجيرانه، ويسأل عن أحوال الجميع متفقّدا مطمئنا، لا يعرف سوى رسم الابتسامة على وجهه، ولا يرد الإساءة إلا بالإحسان. أما والداه فقد جمعته بهما علاقةٌ خاصةٌ، تغمرها المحبة ويجللها الاحترام".
من
بين الجموع، أطلّ نجله الصغير، محمود(10 أعوام)، الذي مذ رأى نعش والده عائدًا من
رحلته الأخيرة على أكتاف تلاميذه، انكبّ عليه حاضنًا خشبًا يفصله عن جثمان كهف
أمانه. أصرّ على مرافقة أبيه محمولًا إلى تلك المحطة العابرة، لأن المثوى الأخير
قلوب محبين لا تُحصى.
يبتسم الطّفل في وجه أمّه حاملًا خبرًا
مفرحًا. يسر إليها ببعض الكلام فتبتسم وتتابع حديث الأنس: "كل البطولات التي
كان يحدثنا عنها، وأن المقاومين الأبطال فعلوا كذا وكذا، عرفنا الآن أنها من
إنجازاته، إما في التخطيط أو التنفيذ، مع أنه كان يستثني نفسه منها. الحاج سلمان
لم يتكلم عن نفسه يومًا، ودائمًا يتجنب عدسات الكاميرا ولا يحب التقاط الصور له".
قائد عيتا الشعب في حرب تموز
في عيتا
الشعب، يفتقد البشر والحجر، القائد الذي أدار معركة حرب تموز 2006 في شوارع البلدة
وحاراتها وزواريبها. فذاكرة انتصار البلدة تدين لـ"الحاج سلمان"، ابن
البقاع الغربي، ذاك المجاهد الذي رفض الانسحاب من القرية الحدودية، حيث أُسِر
الجنديان الصهيونيان، عندما طلب منه السيد نصر الله ذلك مع اشتداد أوار المعركة،
قائلًا:" لن أبرح عيتا". فأضحى بطل المواجهات والحكايات التي تحفظها
الناس وتتناقلها عامًا بعد عام وجيلًا إثر جيل.
وعن أيام الصمود التي كان يتفقّد فيها العائلات الصامدة في ديارها، تقول الحاجة
نزيهة دقدوق:" كان يزورنا في أيام الحرب عندما تهدأ المواجهات، ويعطينا الأمل
ويحثّنا على الصمود. "لا تخافوا، الله معنا". يقول لنا. يسأل عن
أحوالنا، فردًا فردًا، يحادثنا ويطلب منّا الدعاء. حتى عندما أُصيب، أخفى ذلك عن
الشباب المجاهدين، كي لا تضعف معنوياتهم القتالية. كنّا نسرّ عندما نراه لحسن
أخلاقه وطيبته وصلابة موقفه وعزمه، وعندما وصلنا خبر استشهاده منذ أيام شعرنا
بأنّنا فقدنا ابنًا بارًا ستتحدث عنه الأجيال. فعيتا اقترن
نصرها به، ولن تنساه".
وعن غيض من فيض انجازاته في القرية بعض ممن واكب الحاج سلمان فيقول: "كان قتال الصهاينة بالنسبة إليه فنٌّ يهواه، ففي كاراج الحارة الفوقا في عيتا الشعب، قتل ثمانية جنود دفعة واحدة، حين تسلل إلى مقابل الكاراج، والجنود يلوذون به خائفين، وصرع الثمانية برشق واحد. في وقت آخر، رمى النار على ناقلة جند كانت قريبة منه. وفي أحد الأحياء رمى مجموعة من لواء غولاني، كانت قد نفّذت إنزالًا في أحد المنازل، فاستفادت المقاومة من أشلائهم في عمليات تبادل لاحقة".
أما عن دوره
في رفع معنويات شباب المقاومة أثناء حرب تموز مقابل هزيمة معنويات جيش العدو،
فيقول محدثنا: " في أحد أيام الحرب تحدّث إلينا ضابط إسرائيلي باللغة
العربية، عبر مكبّرات الصوت، وطلب منّا بأسلوب لطيف أن نرمي أسلحتنا وننجو
بأنفسنا، وذلك بعد هزائم الجنود، يومًا بعد يوم في المواجهات المباشرة. فردّ عليه
الحاج سلمان قائلًا: "نحن أبناء محمد وعلي لن نترك أرض المعركة". وصرنا
نرد عليه واحدًا واحدًا، ونتحدّث بعزم، الى أن طلب منا قائدنا الصمت، فصمتنا، وصار
الضابط يتكلم لوحده، بعدما أخفق في إضعاف معنوياتنا".
قائد يهزم الموت
"عندما يكون الحاج سلمان في العملية مخططًا أو منفّذًا، كانت قيادة المقاومة تطمئن، ذلك لأنه لا يغفل عن أدق التفاصيل، ويجد الحلول السريعة لأيّة مشكلةٍ قد تعترض تنفيذ العمليات، حتى في اللحظات الأخيرة ما قبل العملية"، هكذا يصف أحد المقربين من الحاج سلمان حجم الحيّز الذي ملأه الشهيد منذ التحاقه بالمقاومة العام 1985 حتى تاريخ استشهاده العام 2014.
في أيام الاحتلال سجّلت له ملاحم المقاومة العديد من الإنجازات، منها:
o قيادة
هجوم على ثكنة الريحان.
o المشاركة في كمين الريحان العيشية.
o قيادة عمليات خاصة ضمن محور كفرحونة
(تصفية العميل سمير اليهودي...).
o قيادة عمليات جزين، وقتل قائد مدرعات فوج
الـ 20 اللحدي.
o قيادة عملية كمين الأرز.
o قيادة عمليات نوعية ومشاركة في أخرى في
مرجعيون وحاصبيا وميدون ورويسات العلم وبئر الضهر والغجر وصيدون.
o أثناء حرب تموز2006، كان قائد عملية خلة
وردة في عيتا الشعب، وقائد عملياتها القرية طيلة أيام الحرب، ليتوّج العدوان
الإسرائيلي بانتصار عيتا وصمود مقاتليها ثلاثة وثلاثين يومًا.
أما في مواجهة التكفيريين، فله في سجل المقاومة إنجازات
مهمة، منها:
o اقتحام الأحمدية.
o قيادة محور عمليات حلب وفك الحصار عن
مطارها.
o القيادة الميدانية لعمليات القلمون.
o قيادة عمليات تحرير كسب.
طالت رحلته التي ما عرف فيها طعم الملل أو الهزائم. أضحى القائد، الذي يأبى إلا أن ينتصر باستشهاده مهما انتصر في حياته، بعدما ترك وراءه آلاف التلاميذ الذين يحمل كلٌّ منهم روحه وعزمه، وسيكونون حيث يجب أن يكونوا.
زينب صالح – موقع المقاومة الإسلامية
بتوقيت بيروت