الشهيد المجاهد الشيخ وسيم شريف شريف ( الشيخ حسن)
· اسم الأم: فاطمة شريف
· محل وتاريخ الولادة: اللبوة 6-4-1982.
· الوضع العائلي: عازب.
· مكان وتاريخ الاستشهاد: صريفا/19-7-2006
حينما سألني الشيخ وسيم عن ماذا سأكتب عنه بعد استشهاده، أجبته : "استشهد، ولا تقلق"، ولم أكن أدري قبل اليوم، كيف يمكن للسكوت أن يستولي على الكيان، ولولا العتابُ، لما نطق القلم بكلامٍ يسبقه اعتذار له أولاً، ولجميع من عرفه ثانياً.
كنّا أربعةً هو أصغرنا سناً، لكنّه أجاد اختصار تلك المسافة بعمق وعيه، وسعة أفق تفكيره، فكان دائماً يُفاجئنا بتحليله للأمور، وإحاطته بها، ورأينا فيه نموذجاً للشباب العصاميين الذي أسسوا بنيان حياتهم بجميع جوانبها؛ الديني والفكري والاجتماعي والفلسفي وحتى الشاعري، على طينةٍ كان أصلها ثابت وفرعها في السماء، لقد غيّر الكثير من حياتنا، ترك فيها أشياء جميلة سترافقنا حتى آخر لحظة من عمرنا.
ذلك الشاب الذي رأيتهُ أول مرة يدخل إلى
قاعة إحدى المحاضرات التخصصية، فهمستُ لزميلتي : "أنظري هناك شاب نسيَ أن
يستشهد في عام 1982 قد دخل إلى القاعة"، فسألتني إن كنتُ أعرفه، أجبتها:
" لا، ولكني أتساءل كيف ضيّع طريقه إلى هنا!"
فمع الاقتراب من حياته، تجدّ نفسك تائهاً
وسط الانطباعات التي يتركها فيك، فهو الشاب الملتزم - المتزمت - المنفتحِ في آن،
وهو الكشفي- المقاوم، الحوزوي - الجامعي، والطالبُ والأستاذ. هو أول الداخلين إلى
قاعة الاحتفالات، وفي الصفّ الأول للمسيرات، كان آخرها مسيرة للجامعيين نال نصيبه
منها عصياً وماءً من قوة مكافحة الشغب، وهو المشارك دائماً في الندوات الفكرية
والأدبية، حضوراً وكتابةً.
من أين يأتي بكل هذه الحماسة للحياة؟ لم يعرف أحدٌ منّا جواب هذا السؤال، وعندما يطلبُ منّا أن نجاريه ببعض أعماله المتعددة والمتشعبة، نتهرّب بأننا أكبر سناً منه، وأن التعب قد أخذ منا مأخذاً، أما هو فلا يزال " عظمه طرياً "! فيغضبُ من ملاحظتنا، وسرعان ما ينتزع ، بذكائه، اعترافاً منّا بأنه " كَبُرَ " ..
كان يكتب الشعر على هوامش صفحات الدرس، ويقرأ في لحظات الراحة، ويقضي الليل ساهراً في ترتيب جدول أعماله، دون أن نسمع مرّة كلمةَ شكوى، أو تبرّم، أو تعب؛ اللهم إلا قبل شهر واحدٍ من استشهاده، ذلك الشهر المتسارع الأحداث، عندما اتصل بنا قائلاً أنه قرر تغيير مكان عمله، ففرحنا له جداً، وعندما سألناه بحماسة:" إلى أين؟"، أجاب : إلى حيث سأكون مرتاحاً وسعيداً، (وبعدان بخبركم!).
تلك الطيبة، والفطرة الطاهرة التي اختزنها بعيداً عن شوائب الدنيا، لمسناها في تفاصيل الدنيا الصغيرة، فرأيناه بأم العين، يمشي في الطريق الصعب مطمئن البال هانئ القلب، في زمنٍ يعجزُ فيه الناس عن التصديق بوجود أشخاص مثله، يذكروننا بزمن الالتزام الأول، الذي كان فيه لكل شيء ثمناً باهظاً يوازي الحياة!
أنهى الشيخ وسيم دراسته الثانوية بذكاءٍ وقّاد يشهد له القاصي قبل الداني، والتحق إلى جانب دراسته الجامعية بالدراسة الحوزوية، حيث تتلمذ على الشيخ المرحوم الإسحاقي، الذي كان يصف وسيم بـ" بهشتي لبنان"، وتميّزت علاقتهما بتعلّق غريبٍ تخطّت حدود علاقة المُريد بالمُراد، حتى إذا ما توفي الشيخ الاسحاقي بحادث سيرٍ مؤسفٍ، غرق وسيم بتلاطم الحزن، فكان يجلسُ باكياً لساعاتٍ في غرفةٍ موصدة، يخرجُ منها والبأس مرسومٌ على تقاسيم وجهه، ذلك البأسُ العنيد الممهور بصدقٍ صافٍ، ولا أذكر مرةً أن ذُكر سماحة الشيخ بكلامٍ إلا وقد رافقته الدموع.
" الملاكُ الذي ضيّع طريقه"، كما كنّا نناديه، أصرّ دائماً على قراءة مقالات الشهداء قبل تسليمها للمجلة، فكان يستغلّ فترة الاستراحة ليقرأها، أثناء مشاركتنا في كتابة عملٍ خاص بالإمام الحسين(ع)،الذي أخذ جهداً في التحقيق والتدوين، وقد لفت أنظارنا بمواظبته على كتابة الصلاة والسلام على الأئمة الميامين كاملاً، ولمّا سألناه أجاب: " تأدباً"، وقد عرفتُ فيما بعد أن هذه سنّة الإمام الخميني(قده)، وكلما أنهينا فصلاً من العمل،أكدّ أنه لن يشاركنا في كتابة المصرع لأنه لا يتحمل ذلك، وفعلاً، لطالما كان يزرعُ نظراته في الأوراق البيضاء أثناء النقاش ليخفي دمعةً غلبته، على مُصابِ أهل البيت(ع)، وبعد انتهائنا من العمل، أعترف لنا بأنه دعا الله سبحانه وتعالى، وقبل أن يتعرّف علينا بحوالي الشهرين، أن يوفقه لمشاركتنا في كتابة نصٍ عن الإمام الحسين(ع)، وقد استجاب الله لدعوته، أما دعائه الأخير كان في مشهد حيث زار الإمام علي الرضا(ع) وسأل الله أن يرزقه الشهادة، وقد عاد إلينا من إيران حاملاً هدايا عبارة عن صور للسيد القائد مع الشهيد الكاظمي(قده).
وبقلمه الشفاف، لأمير المؤمنين(ع)، وللسيدة الزهراء(ع) منه الخواطر، ولصاحب الزمان(عج) النجوى وبث الأنين والحنين، كلمات ترك الدمعُ على ضفافها أسرارُ عاشقٍ ضاقت رحابة الدنيا عليه، وكيفما تلفتَ يعيدُ : " نظرة لطفٍ تكفيني من عين علي..".
كان يسرقُ الوقت كي يقضي يوماً مع أهله في اللبوة، القرية التي قضى فيها سنيّ طفولته وشبابه، قبل أن ينتقل ليتابع دراسته في حوزة الرسول(ص)، وعمله في حزب الله، إلى جانب متابعة لدراسته الجامعية في كلية الحقوق فرع العلوم السياسية، وقد ذكرَ أنه عاشَ أجمل ثلاثة أيام في عمره، حينما قضى آخر عيد أضحى معهم، بعد مرور وقتٍ لم يتسنى لهم زيارتهم.
وفي اليوم الذي خاض فيه مجاهدو المقاومة الإسلامية مواجهة الغجر أواخر العام 2005، وبعد سقوط شهداء، توقفنا عن العمل لنتابع الأخبار وقد غزتْ حماسة غريبة نبرة صوته، وأثناء الحديثِ عن العملية وجه إلي سؤالاً، فالتفتُ ناحيته، لأجيبه عن سؤاله، غير أني سكتُ وأدرت وجهي. في اليوم التالي، وبغيابه، صرّحت لرفيقتي، وهي زوجة صديقه المقرّب، أنني عندما التفتُ لأجيب وسيم عن سؤاله رأيتُ نوراً غريباً في جبهته، جعلني أشعر بالخوف.
لم أجرّب أن أعرف سبب النور والخوف، لأني بررتُ ذلك بما يحمله من صفات أخلاقية مشهور بها، فهو الابن البار جداً بوالديه، والصديق الوفي، والصادقُ الأمين، والمتفاني المؤثر، والمواظب على الكثير من العبادات التي تقرّبه من الله عز وجل ومن صاحب الزمان(عج).
لا زلنا نذكرُ كيف كان يستغرب وهو يتحدث عن أذى الناس بعضها لبعض، فنجده يضع الاحتمالات، والتبريرات، في مواجهة تبرمنّا منه لكثرة ما يحملُ على المحمل الحسن، وفي نهاية الأمر، يقول لنا : " كيف هيك طيب؟".
قبل حوالي شهرٍ ونصف من استشهاده، أسرّ لنا بموضوع جعلنا نضحكُ مستغربين جداً من تعبيره، فهو فجأة قال لنا : " أشعر أني أنقرض! "، كانت تلك من اللحظات القليلة التي ظهرتَ على ملامحه ونبرته التعب، وفي نفس اليوم توافقنا على انتقاء عروسٍ له، واتفقنا معه أنه يجب أن يعقد قرانه في الصيف، فقد آن الأوان بأن نفرح به، خصوصاً وأنه وافق معنا أن لا يشارك بأي عمل يؤخره عن تقديم امتحانات السنة الأخيرة في الجامعة، ووعدنا أن يحمل شهادة الليسانس ليقدمها هدية لأمه.
وفعلاً، تعرّف الشيخ وسيم على صديقة لنا، ولم يسبق لنا قبل ذلك الوقت أن رأينا الفرح الطفولي في عينيه وتصرفاته، ولم نعرفُ من قبل كيف يمكن للإنسان أن يسابق شعور مجهول، فهو مستعجل ولم نعهده عجولاً، وقد استخار في موضوع الزواج خيرتين، الأولى له، والثانية لعروسه، فكانت نتيجة الأولى ممتازة، أما الثانية (لا تفعلْ لأمرٍ ما)، فحيّره الأمر، فنصحناه أن يتصدّق وينتظر أسبوعاً ليكرر الخيرة عند أحد العلماء في إيران، ولكنه حصل على ذات النتيجة.
استبدتْ به الحيرة، وحيّرنا معه، فلم نعد نعرف كيف نخفف عنه، وكان قد حسم أمر عقد القران بحدود شهر آب أو أيلول، على أن يتصدّق بشأن الخيرة، ولكن القلق لم يسلبه السعادة التي أشرقَ بها وجهه، وهو يكرر لنا أنه وأخيراً سيخسّرنا ثمن باقة وردٍ كبيرة لزفافه، بعد أن كررنا أمامه ألف مرة " نريد أن نفرح بك قبل أن نموت"، فكانت إجابته الأخيرة لنا " ستعيشون مئة سنة وسأموت قبلكم! "
نهار الاثنين في 10 تموز 2006 اتصل بي باكراً ليخبرني بأنه يريد أن يتصدّق صدقة يفرح بها صاحب الزمان(عج)، وبعد أن اتفقنا على صيغة الصدقة، ذكّرني بأنه يريد لهذه الصدقة أن تُشعر قلب صاحب الزمان(عج) بفرحة كبيرة.
لم يخطر في بالنا أننا فجأة سنفقده، وأن نتيجة
الخيرة التي أشارت إلى " أمرٍ ما" مقرونة بالشهادة، فهو ودعنا عبر الهاتف وطلب إلينا أن ننتبه
على أنفسنا، وغاب عنا، ذلك الشابُ الذي اقتحم حياتنا بروية، لم نعرف كيف صار فجأة
يضجّ فيها، كنا نشعر بأنه يريد أن يوصلنا إلى مكانٍ ما، وقد وصلناهُ وعرفنا كل
أسراره، ولكنه تركنا هناك ورحل إثر غارة على مجموعة من المجاهدين في قرية صريفا،
وقد استشهد الشيخ وسيم وهو يؤدي صلاة الليل.
إنه ليعزّ عليّ أن أكتبَ عنكَ، وقد خلتُ
لوهلةٍ أنك عندما تراني ستطالبني بقراءة " آخر مقال للمجلة".
إلى عائلة الشيخ وسيم شريف وإلى زملائه في الجامعة اللبنانية، وفي حوزة الرسول الأكرم(ص)، وإلى رفاقه في العمل، وأصدقائه، وإلى تلامذته من طلاب الجامعات الذين تعلّموا منه الكثير، نقدم اعتذارنا على الاختصار الشديد.
نسرين ادريس قازان
بتوقيت بيروت