في يوم التحرير، لم أتخطّ العاشرة، ولا أذكر منه الكثير. لكنّ ما ظلّ عالقاً في مخيّلتي، كان على شكل استفهامات متراكمة، حين كنّا نسأل بعضنا في الصفّ عن القرى التي ننتمي إليها، فيرفق البعض إسم قريته بالـ«محتلّة». لم أكن أفهم. لأنّه يصعب عليك في مثل هذا السنّ أن تدرك أن في الكون كل هذه الوحشيّة. فيما كان الأساتذة لا ينفكون يشرحون لنا أن هناك عدواً واحداً أبدياً ويسلسلون جرائمه طوال الوقت. حادثة واحدة أتذكرها جيّداً، ذاك اليوم الذي لم يعد فيه ناس في البيوت، كنت أسمع صراخ الجيران من كل صوب، أركض بين غرفة الجلوس لأتابع التلفاز وبين شرفة الصالون المطلّة على الشارع الرئيسي، كنت أرتّب كل الاستفهامات تلك وأسقطها على هذا المشهد الكثيف. أركض بين نواحي البيت وأسمع الزغاريد وجسدي لا يتوقف عن الحركة. اتصلت بصديقتي زينب كي أبشّرها بتحرير قريتها الخيام، فكّرت أنها قد تكون مشغولة بشيء ما ولم تدر بعد.
- تحررت قريتك.
-غفراااااااان، أنا مع أهلي في السيارة ذاهبون إلى الخيام!
- متى تعودين؟
- لا أعرف.
قالت الخيام، ولم تقل المحتلّة. أنا سمعتها. قالت الخيام فقط. كيف عرفت مباشرة أن تُسقط عنها الإحتلال، ولم يمر بعد على سقوطه الفعلي إلا القليل من الوقت؟ قالت الخيام ولم تقل المحتلّة. ظللت أفكر وحدي بعد فترة طويلة بصوت زينب وهي في طريقها إلى الخيام. ما الذي فعله الاحتلال حتى تترك زينب مدرستها آخر العام ولا تعود إلى بيروت إلا بعد سنوات طويلة؟ وحتى تنسى مباشرة، بردّ فعل عاطفي عفويّ أن تُسقط عن الخيام صفة الاحتلال؟ كانت تعرف ما يعنيه ولم يكن لديها أسئلة مثلي.
انقطعت أخبارها عني منذ ذلك الوقت، حتى التقيتها صدفة منذ أشهر في الضاحية الجنوبية - بئر العبد. لم أخبرها أني بقيت لسنوات طويلة أفكر بقريتها التي سقط عنها الاحتلال، ولا بأن صوتها يرافق ذكرى التحرير في كل عام.
تحرر الجنوب كلّه. والتقيت بزينب من جديد. مضى 13 عاماً على الذكرى والآن أكتبها للمرة الأولى. شكراً للذكريات التي تُرعش هذا الانتصار.
غفران مصطفى/جريدة السفير
بتوقيت بيروت