بتول زين الدين
الفائزة عن المرتبة الأولى-فئة القصة القصيرة
المباراة الجامعية الأولى عن المقاومة "نواة"
يتبخر مياه البركة ، يبدو وكأنه حرارة نيران الحطب في صوبا[1]كوانين[2]، إنه الشهر اللهاب. يجلس يحي وبتول في محاذاة بركة الصوّان، وكأن على رؤوسهما الطير. يتهامسان حتى لا تسمعهما: ها هي تدخل في الوعاء، تلحقها صديقتها، بل ربما إبنتها، أصبحت ثلاث، أربع، عشر، فثلاثة عشر، لا بل خمسة عشر!
تعدهما بتول قائلة:" لن نختلف المهم أنهن وقعن في المصيدة"!
يرفع يحي الوعاء، وكأنه يحاول أن يضع طفلاً - نام للتوّ- في مهده. لا لن يستيقظ الطفل مجدداً. يحرّك يديه في الهواء معلناً بشارة النصر: "لقد نجحنا، لن تهرب السمكات" !
ينهض ثم يحضر قنينة مرطبات زجاجية كانت منغرسة في الوحل، ينظفها جيداً.
أترين يا بتول؟ لا زلن على قيد الحياة، ها هم "يبلعطون" ! يقول وهو يتأمّل السمكات بلهفة وإعجاب.
يصمت فجأة، ثم ينظر إلى أخته بترجٍ قائلاً: هلاّ زهدتي بقطرات الماء في مطرتك لأمنحك بعضهن؟
تطرق بتول التي لم يتخط عمرها السبعة أعوام، ثم تهزّ برأسها إيجاباً، تشرب ما تبقى في قربتها من قطرات ماء وتناوله إياها.
يبتسم يحيى الذي يكبرها بعامين وهو يأخذ المطرة من أخته بحذر قائلاً: سنتقاسمهن بالتساوي !
يصمت وهو يعبئهم في قنينتين، ثم يقول بحماس: لن أغادر مكاني اليوم حتى يصبح بحوزتنا مائة سمكة، أتشارطين؟
أكره التحدي، لكنني أتمنى ذلك، ردّت بتول بترقّب. ثم اتسعت حدقتا عيناها وقالت بحذر: هلاّ أسرعت قليلاً؟ أنظر هناك!
أشارت بيدها الى موقع برعشيت المقابل لقريتهن صفد البطيخ[3]. ثم قالت :هل رأيت الدخان؟
لا شك أن أبي في الكرم قلق علينا، لقد تأخرنا !
أشار يحي بيده الى اخته مطمئناً إياها، ثم رمى وعاء الصيد مجدداً في البحيرة. وعاء عبارة عن غالون ماء، ثقبَ يحيى غطاءه لتتمكن السمكات من الدخول.
تأملت بتول السمكات التي حظيت بها، محاولة تبديد حالة الإنتظار والقلق. تبدو أكبر واحدة منهن بحجم خنصرها، إقتربت هذه السمكة من حافة المطرة إلى أن أصبح وجهها ملاصقاً للزجاج، ثم تمتمت.
صرخت بتول بغبطة ودهشة كمن يشاهد سمكة للمرة الأولى: لعلها تكلمني، لعلها تبوح بشيء !
ششش ! أرأيتي ماذا صنعتي؟ قال يحيى بإمتعاض، لقد فوّتي علينا بصوتك صيداً ثميناً ! أنظري هربت بعض السمكات.
ثم صمت يحيى برهة، نظر إلى أخته محاولاً إرضائها فقال بتودّد: سمكتك لا تقول شيئاً، إنها تبتلع بعض الماء، تتنفّس.
يعود الصمت من جديد، أمسك يحيى بيد أخته وأخذا ينظران مجدداً إلى الماء بتأن وصبر وعناء، ثم يضغط على يدها كإشارة الفوز كلما دخلت سمكة إلى الوعاء. ثم يقترب منها، يهمس بأذنها: كم هن ساذجات !
ولكن... ما هي إلا ثوانِ حتى فرّت السمكات دفعة واحدة من الوعاء. تحوّل نظر الطفلان من الماء إلى السماء.
إنها الطوافات الإسرائيلية تحلق بكثافة، طيران جويّ على علو ٍمنخفض.
هل ثمّة عمليّة؟ تساءلت بتول. أسرع لنمضي من هنا، أهلنا بالإنتظار! قالت بإلحاح.
حملا قنينتا الماء المطعّمة بالسمك وهرولا بضعة أمتار.
يركض يحي أمام أخته ليطمئن الأهل بأنهما سالمان.
شعرت بتول بالعطش الشديد بعد عشر دقائق من الركض، كادت أن تستسلم .
وصلت نبضات قلبها للحد الذي يفترض التوقف فيه عن بذل المجهود، إلى أن تعثّرت.
توقف يحي وسط الطريق وهو يضغط على رأتيه محاولاً استجلاب شيئاً من الهواء، كان الهواء ساخناً لدرجة شعر انه يكوي رأتيه، نظر خلفه فرأى أخته منبطحة أرضاً لكن يدها مرفوعة للأعلى حتى تبقى قنينة السمك الزجاجية بأمان.
أراد أن يعود أدراجه وهو يسألها : هل حدث لك مكروه؟ هل أحملك؟ هل أرمي بالسمكات جانباً؟ أم أحملكما معاً؟
لكن بتول أشارت بيدها إليه ليتابع المسير. ثم قالت : لا عليك سنصل!
حاولت أن تنهض وهي تتأمل يديها اللتين خالجهما بعص البحص والزجاج، حبست دمعتها متمنية أن لا يراها أخوها، ثم نظرت إلى ركبتها التي إمتصّت تراباً و سقته دماء، أطلقت تنهيدة محدّثة نفسها: هل تراها كانت تتمتم لي أن إحذري؟ أم كانت تدعو عليّ لأني إصطدتها؟ هل جاءوا لإصطيادنا كما إصطدنا السمكات؟ ماذا لو إصطادوني وبقيت ههنا السمكات؟ ألن يجف ماء القنينة؟ ألن تموت جوعاً ؟ ألن تُكسر القنينة ونقتل معاً؟
ضغط صوت الطوّافات أذني يحي، فتمتم قائلاً: إن لم يأتِ والدي الآن، سنصبح بخبر كان ! ثم نظر إلى أخته محفّزاً إياها : سنصل ! خمس دقائق فقط، تحملي واصبري !
هل تراه رحل والدي وتركنا؟ انظر هل تجد أثراً لسيارته؟ ردّت بتول وجسدها النحيل يتمايل يميناً ويساراً من الإرهاق والإعياء.
رفع يحي رأسه وهو يسبح بعرقه محاولاً الرؤية، شعر بأن قواه قد خارت، نزلت قطرات العرق من رأسه الى عينيه ، إبتل رمشيه، ثم بدأ وجه يتصبب عرقاً حتى اطبق عينيه.
شعر بالإنزعاج من تلاصق جفنيه بسبب العرق لكنه أسرّ في نفسه قائلاً: حتى لو استطعت ان أرى ستكون الرؤية بغباشة. حاول ابتلاع ريقه هامساً: جف لساني من العطش!! سكت للحظات ثم قال محدثّا نفسه بصوت متقطّع مخنوق: اصبر! من شرب نهراً لن يغصّ بالساقية ! ثلث ساعة مضت على المسير، تبقى القليل.
ما إن إقترب يحيى أمتار إضافية حتى ابتلع لعابه ثم قال بصوت بالكاد يكون مسموعاً : نعم ها هو، أسرعي حتى نلحق به، إنه يهمّ بالرحيل..
تركل الطوافات الغيوم ، تهبط لمحاذاة أغصان الشجر وتلاحقهما.. أغمضت بتول عينيها قائلة: سأعتبر الصوت هديلاً!
صعد الطفلان السيارة، غابت الأصوات بل المناظر...
استفاق يحيى بعد دقائق يبحث عن قنينته، هل ظلت واقفة؟ هل سقطت؟ نظرَ أسفل السيّارة الصفراء المشرّعة الأبواب، وجدها !
ها هي مئات النملات تتجمع لتتقاسم غنائم السمك، أريق ماؤها..
أخذ يحي يخرج انفاسه على دفعات وهو ينده بأسى : بتول. ثم صمت برهة فلم يسمع جواباً.
اخذ يتلمس ارض السيارة ، وهو يزفر ويقول بما تبقى فيه من حيل بصوت متحشرج: أمي، ابي !
تردّد صوتُه في حلقه وكأنه يلفظ انفاسه الأخيرة، تحشرجت روحُه في صدره وهو يقول: ماذا هناك؟ ألا تسمعون ؟؟ لم لا تجيبون؟؟.
بتوقيت بيروت