ما تزال ابتسامته التي تضيء وجهه تملأ عليّ مكتبي... فقد جاء حمزة الحاج حسن مع فريق من تلفزيون المنار، قبل أيام، لإجراء مقابلة حول «السفير» في عيدها الأربعين.
وخلال انهماك الفريق بإعداد زوايا التصوير وتركيز الإضاءة، جلس إليّ يسألني عن رحلتي مع «السفير»، وأسأله عن مجال عمله، فاندفع يروي لي، بمتعة، مواكبته للمجاهدين على «الجبهة السورية». حدثني عن منطقة القلمون وجبالها، وعن بلدة يبرود ومحيطها من القرى المجاورة، بعد تحريرها وطرد «داعش» و«النصرة» من كامل المنطقة، متوقفاً أمام «مصنع» تفخيخ السيارات تمهيداً لتصديرها بعبوات الموت إلينا في لبنان.
كان يسأل ويسأل طوال الوقت، عن عائلتي، عن بلدتي شمسطار وفيها الفرع الأكبر لعائلته آل الحاج حسن... وأخبرني أنه من شعث، وأنه يمارس مهنته كصحافي بشغف لأنه يجد نفسه فيها.
وفي ختام اللقاء طلب من بعض زملائه التقاط بعض الصور معي، ثم ملأت وجهه ابتسامة عريضة وهو يقول: مَن يدري، ربما جئت إلى «الســفير» كثيــراً لكي أتعلم المزيـــد من فنون العمل الصحافي.
أمس، اجتاحنا الحزن ونحن
نتلقى خبر استشهاد حمزة الحاج حسن أثناء أداء واجبه المهني عند جبهة معلولا...
لكأنه دفع مع زميليه حليم علوه ومحمد منتش ضريبة تحريرها.
هي ضريبة جديدة يدفعها الإخلاص في أداء الواجب المهني.
المجد للشهداء.
طلال سليمان
ناشر جريدة السفير
ككل يوم، أضع أمامي ورقة أدوّن فيها ما هو آتٍ من تقارير المراسلين:
إنتظرتُ تقريرك اليوم من
معلولا، لكنه لم يصل! بلى، وصل بلون الشهادة القاني.
يا له من تقرير أوجع القلب وأدمع العين من الآماق.
حمزة، شابٌ بقلب ِعصفور
ٍبهي يطير بين الأغصان، يعزف من قيثارة الأمل وروح الإقدام.
عرفتك دائماً متفائلاً، محباً للحياة، مستخفاً بالمصاعب
والمتاعب. يا لها من مهنة!
نم بين الشهداء الذين أحببت.
علي عبادي
رئيس تحرير النشرات الفضائية في قناة المنار
هي ليست ابتسامة. وهي بالتأكيد ليست همسة في أذن. هي نفسها الحكاية، تلك التي قُصّت علينا منذ ولدنا والى حيث المصير: أنتم تشرحون دون كلل، يوماً بعد يوم، معنى أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة !
هي ليست غفوة أو غفلة من الزمن. هي برهة. لحظة واحدة كافية لنصّ رسالة أخيرة. لا مكان فيها للغلط. ولا لتوليف. فيها صورة نقية. واضحة. جلية. مباشرة، فيها الاسم الاول للحياة: أبناء على هيئة حقيقتهم، هم يشرحون لنا، كل يوم، معنى أن على هذه الارض ما يستحق الحياة!
هي ليست غلطة، ولا تشاطراً أو تضارباً مع الريح. هي فرصة التطلع الى الافق، الى حيث ترتسم الوجوه الآيلة الى الحياة كل وقت. هي نافذة لإعلان الحب لكل ما يليق بمن يعرف أن على هذه الارض ما يستحق الحياة!
في مكان ليس ببعيد. حيث يقف مجرمون لا هوية لهم سوى الدم المراق باسم إله لم يرد في خاطر البشر يوماً، وباسم خرافة لم ترد في كل الأساطير. هناك، سترتسم ابتسامة، عنوة، وستقلق كل من ينظر الى السماء، وتجعله يسأل عن معنى حياته، وعن معنى بقائه، لولا أن على هذه الارض ما يستحق الحياة!
لشهداء المنار اسم يمتد
عقوداً الى الخلف، ويستمر قروناً الى ما بعد حياتنا جميعاً. اسم له لون الهواء
النقي، الذي لا يعرف قيمته إلا من يعرف أن على هذه الارض ما يستحق الحياة!
رجال الضوء الذين سقطوا برصاص أحفاد الليل السحيق، هم أنفسهم
الذين يجعلون الواحد منا مجرد قاصر، ينظر الى شموع لا معنى لاحتراقها، سوى بث
النور، في طريق من لم يتعرّف بعد على حقيقة أن على هذه الارض ما يستحق الحياة!
لا معنى للنظر الى الخلف، ولا الى سؤال الذات أو الآخر أو الإله عن الذي يحصل. فقط، يمكن من يريد، النظر الى ذاته، الى تفاصيله اليومية، حتى يقرر، ما إذا كان يستحق البقاء على أرض، فيها ما يستحق الحياة!
ابراهيم الأمين/جريدة الأخبار
ما أصعبها من مهمة. أصعب من كلّ الامتحانات التي خضعتَ لها في كلية الإعلام يا حمزة. أصعب من صف الماستر 2 الذي كنت تشكو منه: من مواده الكثيرة وواجباته المملّة وحضوره الإجباري. أصعب من الرسالة التي كنت تعدّ لها تحت عنوان القنوات التلفزيونية الدينية. مهمتي الآن أصعب من كلّ ما كنت تشكو منه ضاحكاً، ونحن واقفان على درج الكلية، تسأل: كيف التوفيق بين العمل الصحافي والدراسة؟
ما أسهل سؤالك، أمام الامتحان
الذي تضعني أمامه الآن. وكأني أسمعك تقول ساخراً: اكتبي خبراً صحافياً، والغصّة في
حلقك. اكتبي عني شهيداً، وقلبك يحترق عليّ.
كيف أكتب يا حمزة؟ لم يعلّمنا أحد كيف نكتب خبراً بهذا الشكل.
كيف أكتب عنك، وقد رحلت باكراً جداً أيها الشاعر الجميل والمراسل المندفع والصديق الوفي
والطالب المحترم والابن البارّ. لست أنا من يقول عنك هذا الكلام.
إنهم أصدقاؤك وزملاؤك وأساتذتك. كلّهم كانوا يبكونك أمس.
كلّهم فجعوا بخبر استشهادك مع زميليك حليم علّوه ومحمد منتش.
زملاؤك في القناة لم يصدّقوا التطمينات التي كانت تبّث عن إصابة
خطرة تعرّض لها فريق عملكم. الإرباك الذي ساد بعد انقطاع التواصل معكم، فهمه
الجميع. كان مخرج نشرة الأخبار سليمان زعيتر على
موعد معكم، لكي تطلّ أنت في نشرة أخبار الثالثة والنصف من معلولا المحرّرة. غاب
تقريرك عن النشرة، وأنت الذي كنت قد اقترحت على زملائك في القناة أن يعدّ كل منهم
تقريراً احتياطياً يبثّ لدى استشهادهم. هذا ما قلته لزميلك، وجارك في العمل، حسن
حمزة، بعد عودته سالماً من يبرود.
كان يخبرك عمّا تعرّض له من أخطار، وتعترف له ضاحكاً بأنك كنت تنتظر خبر استشهاده لكي تحجز مكتبه وترتاح من شجاركما المستمرّ حول شاحن الهاتف الذي تتقاسمانه. يومها قلت له: اكتب تقريراً مسبقاً، وعندما تستشهد نمنتجه ونبثّه.
كان الحديث عن الاستشهاد في
سوريا متوقعاً إذاً، بسبب الخطر الذي خبره معظم من توجّه إلى هناك للتغطية. لذا،
لم يفاجأ حسن بالخبر أمس، وهو الذي كلّف أكثر من مرة بالتغطية من سوريا. يشرح:
«غالباً ما نكون أول وسيلة إعلامية تدخل بعد انتهاء الأعمال العسكرية، والخشية
الأساسية هي من العبوات الناسفة التي يخلّفها المسلّحون. أتذكر أني نجوت منها في
يبرود. لكن هذا جزء من العمل، وكنّا نعي خطورته، فلا نتقدّم إلا بعد التأكد قدر
المستطاع». ما لم يكن متوقعاً التعرّض لكمين «إطلاق نار من بعد».
عند الساعة الرابعة إلا ربعاً، ورد خبر عن فقدان الاتصال معكم
من أحد أعضاء الفريق، علي جهجاه، الذي نجا من الكمين. وكان الخبر الأول الذي
تلقّاه زملاؤك استشهاد التقني حليم علّوه، وإصابتك في قدميك، إضافة إلى إصابة كل من
محمد قصاص وجعفر حسن. ولاحقاً تلقوا خبر استشهاد محمد منتش.
وقع الخبر كان أليماً. عيون الجميع متورّمة من البكاء، وكلّ منهم يحاول أن يتذكر كلماتك الأخيرة لهم. كان حسن يرتدي قميصك أمس يا حمزة. خزانة ثيابكما المشتركة جعلته يختاره ويرتديه تحسّباً لتكليفه بمهمة غير متوقعة. «ما هذه الصدفة»، كان يكرّر لنفسه طيلة الوقت. يحكي عنك، يدلّ على أغراضك الموجودة على المكتب: أوراقك التي دوّنت عليها بعض المواعيد والعناوين، زجاجة العطر، الكاميرا.
على أحد دفاترك، نجد عبارة أحد شهداء ملحمة ميدون الشهيرة (أيار 1988)، زيد الموسوي التي يروى أنه خطّها على صخرة في ساحة المواجهة: «سقطنا شهداء ولم نركع، انظروا دماءنا وتابعوا الطريق».
كلّ من عرفك كان يعرف حبّك للشهداء. لكن أحداً منهم لم يكن يتوقع أن يسمع خبر استشهادك. يقول سليمان ببراءة تامة: «يمكن أن أصدق خبر استشهاد عباس فنيش، أو حسن حمزة، لجدّيتهما. لكن حمزة لا. صعب أن أصدّق أن صاحب هذا الوجه البشوش يمكنه أن يرحل باكراً... باكراً جداً».
بالنسبة إلى زملائك، أنت صاحب الوجه الذي لا تفارقه الابتسامة، الوجه الذي لم يعرف الحزن إلا في الفترة التي أصيبت فيها والدته بمرض خبيث.
أنت كبير إخوتك الخمسة. ابن السابعة والعشرين، الذي كنت تساعد والدك أستاذ المدرسة. يصفك زملاؤك بالعصامي والحنون.
يروي الجميع كيف رافقت
والدتك طيلة فترة علاجها، «كان حمزة حنوناً بشكل لافت. أهمل عمله وأصدقاءه وتفرّغ
لخدمتها والاهتمام بها»، تقول منى طحيني. تذكر كيف كنت تستغرب عدم
قيامها بزيارة أسبوعية لأهلها المقيمين في الجنوب، مع أنها تملك سيارة، في حين كنت
تستخدم المواصلات العامة لتزور أهلك في شعث البقاعية، قبل أن تشتري السيارة.
شعث، هذه البلدة التي لا تميّزها عن جنيف كما قلت لزملائك بعد
عودتك من تغطية مؤتمر جنيف الأخير، كما تفضّل فليطا السورية الباردة على الكويت وفندق
الخمس نجوم الذي أقمت فيه هناك. تخبرهم عن انطباعاتك بسخرية، وبحسّ نكتة حاضر على
الدوام. هذه الطلاقة جعلت مريم كرنيب تختار مرافقتك للتعرّف إلى العمل الميداني
وتكتشف فيك شاباً مرحاً وطموحاً ورومانسياً. فأنت شاعر أيضاً، ولا تبخل بالشعر على
محبيك، كما يقول زميلك في الجامعة منذ السنة الاولى محمد نسر الذي عرفك «بليغاً».
كلما قال لك «سمّعنا شي»، تجيب طلبه بقصائد تنظمها سريعاً. وهذا ما جعل هلال ترمس
يفكّر أمس في أن ينشر قصائدك في ديوان.
يروي رفاقك هذه الأخبار عنك، فيما نقرأ على شاشة أحد الأجهزة في استديو «المنار» العبارة الآتية: «إن من قتلك يا حمزة لا يمتّ إلى القوة بصلة... إنما يحتاج الظلم إلى الضعف".
مهى زراقط/جريدة الأخبار
بتوقيت بيروت