والدة تكتب إلى ولدها على جبهة الجهاد : إليك حسين.. وإلى كل الذين يلبّون نداءاتِ الحسين (ع) ومنهم من أدّى مناسك هذه التلبية العظيمة ومنهم من ينتظر..
ما زالت نضرةً في خاطري اللحظة التي رأيته فيها للمرة الأولى، وجهه المحتقن، عيناه الفائيتان تحت أخضر شمعي، راكمه تأخره في الوصول، حتى مطلع العشرة الأواخر، في الشهر الكريم الذي أمضيته، مع حمله..صائمة..
ما زلت أذكرُ كيف احتوته ذراعاي، بعد أن غسلته الممرضة من دماء أمومتي.. ليُذهلني بعدها وميض عينيه الواسعتين، تبتسمان لعينين المهلوفتين، منذ النظرة الأولى. كم أسعد مرآه، جدَّته، أمّ أبيه، وهي تراه يرتشف بين الفينة والفينة أولى قطرات إكسير الحياة من قلبي.. بين ضلوعي.
أذكرُ حتى اليوم كيف رقّ له صوتي، مناغياً طفولته الوليدة، الآتية إليَّ هبةً من الله شفاءً لحزنٍ سابقٍ:
هذا سمّاه الحسين وهو
لي نورٌ وعينُ
بعد هذا كيف أنسى حين
ينهالُ اللجينُ
واللجين دين ربي رحمةٌ
منه ودين
أذكرُ اتّساع شفتيه، تفتران عن أروع ابتسامةٍ كشفت أسنانه الأولى، أولى خطاه المتعثرة، ضحكاتنا الأولى سقطاته أرضاً، صوت كفَّيه الصغيرين تستجيبان تصفيقاً لنجاحه في الوقوف، متكئاً على ساعديه المكتنزين، للمرة الأولى.
وحده، خلافاً لأخويه الكبيرين بكى، عندما تركته لأول مرةٍ، بين رفاق صفه ومعلّماته، واحتجَّت معلمته كثيراً، بعد أن رصدتْ ذات انصرافٍ، سرعة انطلاقه تاركاً محفظته في زاويته المفضّلة، قرب الشجرة الكبيرة، مرتمياً بين ذراعيْ، منتحباً، دون سيب. وراكمت السنوات في ذاكرتي، من ملفّاته الدراسية، الكثير من الشغب في الحصص العلمية واللغة الأجنبية، والكثير من التفوّق، في اللغة العربية – العزيزة على قلبي وِفق تعليقه الدائم – والفنون الموسيقية والرياضة والحاسوب. اليوم استحضر تفاصيل سعادته الدامعة، بعد نجاحه إِثْر جهودٍ مضنية، وكلمته الخالدة في أذهان كل أفراد العائلة: "نجحت بشرف... والله نجحْت بشرف".
ثمة نجاح آخر لن ننساه جميعاً، حصوله على الراية الصفراء، هدية عبر إصراره على حمْلها، بعد الكثير من الدمع والرعب الذي خلَّدَتْه قِصةٌ قصيرة "تُهدى ولا تباع" أثناء رحلتنا إلى قلعة الشقيف للمرة الأولى بعد التحرير.
لن أنسى إصغاءه المرَكَّز، لمعلمة اللغة الفرنسية "باتريسيا"، تسألني عن مهنتي، فقد عاقبَتْه في الحصَّة الأخيرة، لأنها سمعته يجيبُ أحد رفاقه بحدَّةٍ واعتداد "إيه.. هاي أمي.. هاي اللي عم تقول عنها ناصحة.. صارت كاتبة خمسة عشر كتاب". ومنَعَتْه من استعمال يده المنقبضة، استعداداً لِلَكمة. ولم تناقشه بعد أن عرفت مني أن رصيدي لم يكن قد تجاوز الكتب الخمسة، لكنها أعلنت إعجابها به، فقد رأت في مبالغته الرقم، فهمياً كبيراً وتقديراً عالياً مبكِّراً... لأمه.
وكم جاء الصغار باكين، يشكونه، لأنه ضرب من تجرّأ على شتم أُمه بلغةٍ سوقية، كان لسانه يأنفها وأخلاقه تأباها. وقد اتهمه أحدهم يشتمه مع أبويه، فانبرى المضروب الباكي يكذِّبه مُنكراً: "لأ.. مش صحيح، هوِّي ضربني ووجعني، بس هو ما بعمره سب لا إِلي ولا إلك ولا لغيرنا"... وصارا من يومها صديقين.
ما زلت أذكر خطاه الواثقة، اعتداده بنفسه، ثقته الكبيرة بي، بوالده، بأخوته الثلاثة، وعاطفته اللامحدودة لنا جميعاً، لأقاربه صغاراً وكباراً.
ولن أغفر لنفسي، ما حييت، قسوة عقابي له في السادس من تموز من العام ألفين وستة، إِثر رؤيتي وثيقة علاماته النهائية التي لم يرضني فيها سوى علامات الفنون والحاسوب واللغة العربية، وإصراري عليه لإمساك القلم، الذي جرحت ريشته يده، ونحن نتجاذبه رفضاً وإصراراً... ومسامحته لي، أثناء قيام عمِّه بفك قطبتَيْ جرحه في اليوم الثاني عشر من تموز من العام نفسه.
لن أنسى أبداً، اللحظة التي اتخذ كلٌّ منّا مُصلاّه، في غرفة واحدةٍ قبل أذان المغرب، وحده كان جالساً على حافة السرير، يصغي بانتباه، لصوتٍ نديٍّ، التقطه سمعه من بعيد. وحده حرَّك صمتَ الترقّب القلق صائحاً: "ماما... بابا... السيّد!! السيد عم يحكي، صوتو طالع عند جيراناً". فانتبهنا جميعاً. إنه فعلاً صوت السّيد، يعودُ إلينا بعد غيابه منذ ثلاثة أو أربعة أيام، قبل بدء العدوان إثر إعلانه عملية الوعد الصادق، يَرَوْنا جميعاً عطاشى في صحراء هجرتها القوافل، وقد غسل صوته قلوبنا من مخاوفها، وفاجأنا مطراً قبل ختام صلاة الاستسقاء بل بدئها، فدبَّت فينا الحياة. كانت الكهرباء مقطوعةً، ولا جهازاً يدور دونها. لذلك لم آبه لمغادرته الغرفة، لكنني ابتسمت له بعد عودته، حاملاً دميته الصفراء، التي أهديته إيَّاها، تفكيراً عن قسوة عقابي السابق له؛ اقترب من أبيه قائلاً مبتهجاً: "هيدي اللعبة الصفرا بتحكي يا بابا".
وتحلَّقنا حول دميته بين يدي أبيه، وارتشفنا عبرها صوتَ السيد الحبيب وبشراه العظيمة: "انظروا إليها، الآن في عرض البحر، البارحة الإسرائيلية التي اعتدت على بنيتنا التحتية وشعبنا وأطفالنا.. البارحة "ساعر"... تحترق".
لن أنسى صراخه يحتجُّ علينا، رافضاً مغادرة المنزل، في اليوم الثلاثين للعدوان، ولا كلمته المعيِّرة، إثر رؤيته بحي السُّلم، جثة بلا راس، أشرفلي ما اتخلّى عن السيد لحالو بالضاحية" وسرعان ما جفَّف دموعاً خذلت تحدِّيه لنا. ومشاعره الأولى لصاحبة وجهٍ، لا يقل عنها طهراً ونقاء؟ كيف أنساها؟ وقد خصَّني بها مصارحاً، معترفاً، ثم أصغى ملياً لصوت ضميره وعقله عندما سمع سؤالي "لو خَيْها لهالصبية شفتو عم يحكي مع أختك، وهوي بعمرك، وبنفس ظروفك، ما بتعصِّب وبتعتبرو عم يتسلّى، لأنو مش مؤهَّل للارتباط؟". فوعدني بضبط مشاعره، والتزام أصول التعامل باحترام مع الفتاة وعائلتها "لأنوّ فعلاً، اللي ما بيقبلو لأختي، ما بيقبلو لبنات العالم".
والآن أستعيدُ بدقّة مشاعري، فرحتي الغامرة، إثر نجاحه الرائع في الدورة الأولى، من امتحانات الشهادة الفنّية المتوسِّطة. أستعيد الآن إشراقة ابتسامته المنتصرة، وقعَ خطاه الواثقة، في ثوب التخرّج في الاحتفال السَّنوي بين رفاقه، وطعم امتزاج دمعه ودموعي، في عناق التهاني وقبلاته.
ويؤلمني الآن أن أتذكر لحظة أبلغني قراره ترك الدراسة، قبل إجراء الامتحان النهائي للسنة الثانوية الأولى، كنت قد لاحظت غموضاً مستجدّاً وكتماناً مفاجئاً رفع بيننا أسواراً عالية، لا أدري متى وكيف صُنعت... أذكر أنني بكيت كثيراً وبحرقة بالغة، وأنا أرجوه أن يعدل عن قراره، وأن يعود إلى متابعة الدراسة، ولو بعد سنتين من تركها، فقد فعلها كثيرون قبله، واستأنفوا بنجاح بعد انقطاع طويل. ما زلت أذكر حدة نقاشاتنا، التي كثيراً ما تحوَّلت إلى مشادات كلامية ومشاجرات بلغتْ حدود القطيعة، وغالباً ما انتهت بطرفة أرغمتْني في عز غضبي على الابتسام.
لن أنسى إرضاءه لي بالتوجه إلى الموسيقى، زياراته إلى كبار المنشدين الإسلاميين، حماسه لرفع الأذان، للإنشاد، لتلاوة القرآن في الاحتفالات الكشفية، تدريباته الشاقة في البيت، بإشرافي وتشجيعي. احتجّ أخوه الكبير عليَّ يوماً، بأسلوبه الطريف نفسه: "مش الحق عليك، الحق ع إمَّك اللي قالتلك صوتَك حلو". لم تردم هذه النشاطات الهوَّة المستجدّة بيننا، لقد فصلت بيننا أنهارٌ من الاستقلالية المفاجئة. وأوقفت كُلاًّ منّا على ضفّةٍ مقابلةٍ، حالت دون القدرة على استعادة التواصل الذي كان.
ونسجنا عل مغزله طرفةً، كنا نُسْمِعُه إيَّاها، كلما رفض الإفصاح عن أمرٍ اكتشفناه صدفةً: "ما يجوز السؤال، أمنيات أمنيات" إلى أن اسقبلْتُ قبله اتصالاً مجهول المصدر، مهذّب اللهجة واللغة، واضح الانتماء إلينا، وتناقشنا جميعاً حوله، وواجهناه بشكوكنا، وواجَهَنا باعترافه متحدِّياً، متمسِّكاً بقراره، مصراً على تنفيذه؛ بل وطلب الدعاء والرّضا. وفاجأتني جدّية ملامحه إثر سماعه من احتجَّ على بكائي، قائلاً لي: "مش إنتِ كتبتيلو، قاوم بُني؟" فبادرته: "ليش لحَّق يشوفا لقاوم بُني؟" ووضعت إجابته حداً لمحاولتي الغمز من تركه المطالعة زمناً، "أنا لا شفت قاوم بُني، ولا قريتا، أنا عشت شعور حقيقي من وقت اللي كان قلبي حد قلبك، عم يكتبوها سوا".
ولن تنسيني الأيام أبداً، بهجة المفاجأة، يوم قدّمت لي كفُّه الشجاعة، بطاعة الدعوة، لحضور العرض الأول من المسرحية العاشورائية، "ضوِّي يا نجمة". وكم صفَّقْتُ له بعد نجاحه بأداء دور البطولة الخالدة الحيّة دور القاسم بن الحسن (ع)، أذكر أنني تركت صديقتي ماجدة تبكي وهي تراه يقع تحت ضربات السيوف شهيداً، ومضيت أعانقه مهنِّئةً، وانطلق لساني دون وعي مني "انشالله بتلعب بالحياة دور القاسم، مش بس عالمسرح".
والآن أدرك سر الحرارة الدافقة في عناقه المتكرر في تلك الأمسية التي أنستني فيها سعادتي به، إفطاري بعد صيامي ذاك اليوم من محرم الحرام. وفي يوم غابت شمسه والكهرباء معاً، اقتحم عليَّ وحدتي الحزينة، سالكاً إليَّ دروب الحوار المقنع "ماما! اسمعيني شوي!! مش انتِ غنَّيتيلي بطفولتي "هذا سمَّاه الحسين" لأنك شفتي الإمام الحسين (ع) بمنامِك وقلَّك "سمِّيه حسيناً؟" فأجبته بصوتٍ تعاون الدمع والعتم على خنقه: "إيه صحيح... وشو خصَّا هيدي بقرارك إللي قبل وقتو؟ ليش ما صَبْرت متل أخواتك اللي عم بكفوا عِلْمُن، وحني مش ضد اتجاهك أبداً؟ وارتفع صوته مؤكداً: "هيدا مش كافي، افهميني يا امي، الإمام الحسين ما إجا يزورك، كرمالك، إجا كرمالي وقلّلك سمّيه حسيناً. وإنتِ حفّظْتيني ايّاها، نشيدة زغيرة، وأنا حفظْتا أمانة كبيرة. الله يوفقكْ إرْضي عليِّ وسامحيني وادعيلي كون جدير باسم الحسين".
ومنعتني دموعي من التفوّه
بكلمة، وغادرني منهياً معي حواره الأول بهذا الخصوص... والأخير.
ورأيته يدخل الغرفة الثانية، وسمعته يحدِّث أباه ثم
يُقَبِّلهُ. والآن أتذكر بدقةٍ كفَّه التي مدَّها إليَّ مصافحاً.... صافَحَتها
نظراتي الدامعة دون كفِّي،... لطالما عانقتني هذه اليد السمراء، ولطالما قبَّلتُ
هذه الكف زمن الطفولة الجميلة، وغالباً ما عابثتني ودفعْتُها، وعبثَتْ بغطاء رأسي وزجرْتها،
تركت يده الحبيبة ما أقساني، يده التي طالما أعانتني في حمل ثقل الأشياء والهموم
والأحزان، ننتظر، وتركت كلمتين كبيرتين، تقعان في كفِّها: "الله معك". وتهدَّجت
كلماه تسألانني في غصَّةٍ: "هيك صارت؟" وأطبق كفّه على دمه وقلبي ومضى.
وصفعني صوت الباب معلناً خروجه، تباطأْتُ في الخروج إلى الشرفة، على غير عادتي كلما مضى في إحدى غيباته الصغرى. استطعت من مكاني أن أرى قامته تواجه الجدار الأخير، قبل مدخل الزقاق... لمحْتُ شعره، الذي كان يلتف حول أصابعي حين كانت تدغدغه، وعلى كتفيه حقيبته التي ساعدْتُه أمس في إعدادها، وقميصه الجميل الجديد ذي المربَّعات الزرقاء والبيضاء.. والصفراء.
ولمحت تردّده في ولوج الزقاق، أتراه كان يُفكِّر أن يعود إليَّ، كما كنت أفكر أن أعدو خلفه؟ لم يلتفت إلى الوراء، شدَّ قامته.. حثَّ خطاه ومشى.
هكذا كان وسيبقى، واثق الخطوة يمشي ملكاً.. أميراً.. مجاهداً.. واستفقت على ضميري يسألني: يا الله لما بلغتْ عليه قسوتي هذا الحد؟! وبكيت، وما زلت أبكي.
والآن أعيش بانتظار كفَّه، تمتد إليَّ ثانية.
وأتابع حياتي راجيةً من الله سبحانه أن يعيده إليَّ ثالثةً ورابعةً و... قد بات في كلِّ صلاة قنوتي: "اللهمَّ ثبِّته وثبِّت قدميه وأقدام أخوانه وقلوبهم في ساحات الجهاد.. وانصرهم واحمهم وأعِدْهم إلى أمهاتهم غانمين سالمين، وأعِد لي كفّه أغسلها بدموع ندمي واغمرها بقبلات لهفتي وهي عائدةٌ إليَّ بالنصرِ المبين... اللهمَّ آمين".
ولاء حمود
موقع قناة المنار
NERJESSمن اصدق ما قرات باركك الله2014-03-20 16:21:34 |
بتوقيت بيروت