مهما كتبنا عن عماد فلا يمكن أن نحيطه بالكلمات لاكتمال التعبير عنه صورة ومنهجاً وسلوكاً إلا بالاستعانة بالأسطورة, فبعض عظمائنا هم اقرب إلى الأسطورة بعظمتهم منهم إلى العوام من عموم السير.
حدثنا فريد الدين عطار النيشابوري العارف الفارسي عن أسطورة "السِّيمرغ " وتقول الأسطورة أنّ الطيور اجتمعت والخلاف قد دب بينها ومشاكلها تراكمت وبدأ اليأس يدب في نفوسها وهي تبحث عن حل لهذه المشاكل فلم تجد له سبيلا وعندما سألت العارفين عن طريق الحل أو من يحل لهم مشكلتهم قالوا لهم إنّ طائر السِّيمرغ هو الذي يستطيع أن يرشدهم إلى حل تلك المشاكل, ولكن هذا السِّيمرغ يسكن في البعيد عند سدرة المنتهى والسفر إليه مضنٍ, رغم ذلك ولكثرة وعظمة مشاكل الطيور فإنها عقدت العزم عل البدء بالطيران إليه لعله يسعفها في حل مشاكلها.
بدأت الطيور بالطيران والتحليق وكلما ارتفعت وزادت مصاعب الرحلة كلما تهاوت طيور وسقطت من كثرة التعب أو من الوهن وحب العيش المريح فاستقالوا من السفر وعادوا أدراجهم فمنهم من مات ومنهم من عاد خائبا إلا ثلاثون منهم وصلوا إلى نقطة النهاية حيث أعلى مراحل الطير والطيران وحيث كل الأمور قد تكشفت من خلال السفر وتعلم التغلب على الصعاب وتحدي المخاطر وحل كافة المصائد والعثرات وتكونت لديهم صورة كاملة عن كل المراحل والوقائع وما هو كائن وما كان في كل هذا السفر الطويل, ولكن مفاجأتهم كانت أنهم لم يجدوا أحدا عند نقطة اللقاء بل وجدوا أنفسهم وعددهم ثلاثون, وثلاثون طيرا باللغة الفارسية هي نفسها كلمة السِّيمرغ فعرفوا أنّ العارف الذي أرشدهم كان يريد أن يوصلهم إلى مبتغاهم وان يدلهم إلى طريق المعرفة من خلال أسطورة وجود طائر السِّيمرغ الذي إن وصلوا إليه وصلوا إلى معرفة الحقيقة فإذا بمعرفتهم لأنفسهم ولقدراتهم هي نفسها تساوي معرفة الحقيقة الكبرى.
عندما جاء إليَّ عماد مغنية وهو لم يتجاوز سن السادسة عشرة من عمره, طالبا التدريب وتعلم أصول وفنون القتال كان يقدم طلبه بخجل وينتظر الجواب بشغف ولكن لم يكن طلبه, رغم شغفه لتحقيقه, ليطرح بدون شروط فقال: نحن مجموعة مؤمنة نريد أن نتدرب على فنون القتال بهدف قتال إسرائيل ولا نريد أن نكون أعضاء في "فتح" ولا نريد أن نقاتل في الحرب الأهلية نريد أن نكون مستعدين لقتال إسرائيل.
كان يظن أنّ الدخول إلى فتح يتطلب منه اعتناق عقيدة ما تخالف إيمانه, وكان يسعى للتدريب والحرب الأهلية مشتعلة على مستوى الوطن بأكمله ولهذا وضع الشرطين وكان ما أراد وتعلم فنون القتال دون أن يكون عضوا في فتح ودون أن يدفع به إلى آتون الحرب الأهلية. إلا انه تعلّم أنّ الدخول إلى فتح لا يتطلب اعتناق ما يخالف عقيدته, بل إنّ ذلك لا يخالف مبادئ فتح في شيء رغم طغيان الجو اليساري في حينه.
في معسكر التدريب قرب مدينة الدامور لم نتحدث عن العدو إلا على أنه إسرائيل, ولم نقترب من مدلولات وأبعاد الحرب الأهلية إلا على أنها أداة ووسيلة ومكيدة لإبعادنا عن أهدافنا بالوصول إلى تحرير فلسطين.
في هذا المعسكر تحدثنا عن ضرورة الاستعداد والإعداد دائما وأبدا بما يسبق توقعات العدو, علينا أن نفاجئه ونكون دائمي الاستعداد في الأماكن والأزمنة التي قد تكون ساحات للقتال في المستقبل, الأفق واسع والمخيلة أوسع, التفكير التكتيكي مهم ولكن لا يحل محل التفكير الاستراتيجي والعكس صحيح, الأهداف يجب أن تكون واضحة والهمة عالية, فالمهمة صعبة ولكن غير مستحيلة, والعدو قوي ولكن تدميره واجب وهذا الهدف ممكن إن نحن أحسنا الصبر والتدبير والتحضير والانقضاض.
لم أكن أدرك مدى تأثير تلك الدروس على تلك المسيرة إلا عندما بدأ يذكرني بها رغم انقضاء السنين عليها, كنت لاحظت انه يسجل, بين قلّة, كل ما نقوله, ويأخذ الملاحظات عن كل معلومة, ويتعمق في السؤال عن كل فن وسلاح, أدركت من حينها انه قد أوكل نفسه بمهمة قيادة إخوانه ولكن لم أكن أتصور أنّ هذا الطير سيصل إلى سدرة المنتهى وأنه سيقود إخوانه في هذا السفر الطويل إلى قمم الانتصارات التي فتحت الآفاق الكبار للأمة جمعاء.
لقد كان يؤمن, دون أي شك, أن الهدف سيتحقق, أن وعد الله حق, وما علينا إلا أن نكون كتلك الطيور الثلاثين التي لم تمل ولم تكل حتى وصول الهدف.
كان يعرف أنّ المعجزات لا تأتي عن طريق الصدف, بل هي نتاج التوكل والتعقل والتفاؤل, التوكل على الله, والتعقل في التدبير والإعداد والدراسة والاستطلاع والتذخير, حتى اختيار اللحظة بإعطاء الأمر بالتدمير, وهنا أيضا باختيار التوقيت الأنسب بعد الاستشارة والاستخارة.
سقط على الدرب العشرات بل المئات والألوف, منهم المنظمات والجموع, ومنهم الأفراد, ومنهم من التعب, ومنهم من فقدان الأمل, ومنهم من فقدان البوصلة, إلا أنّ رفاق عماد من الشهداء سقطوا صعودا على الطريق وبالاتجاه الصحيح باتجاه قبلة سدرة المنتهى والمبتغى.
لم يعرف في تاريخ الحروب والقادة العسكريين من جمع هذا المجد بكونه بارعا في خوض معارك التكتيك, من التفخيخ والقنص والانقضاض والالتفاف, وفي نفس البراعة في الإستراتيجية ورسم الصورة الكبيرة والأهداف الكبار في آن واحد, هذه المزايا اجتمعت في عماد: ففي نفس الوقت الذي كان يرسم فيها صورة المعارك الكبرى والفاصلة كان يحرص على إتقان وإنجاح الكمائن الصغرى التي يؤدي نجاحها إلى الانتصار الكبير والحاسم.
كان يعرف أنّ الوصول إلى نصر كبيير يحتاج إلى مجموعة انتصارات, وأن تراكم الانتصارات الصغيرة يؤسس إلى تراكم التجربة التي تحقق النصر الكبير, وكان يعلم فن الانتقال من إستراتيجية النصر الكبير المحدود إلى رحاب إستراتيجية نصر أكبر وأرحب, ولم تكن نفسه لتستكين في نشوة نصر معين وأسلوب قد مر على الناظرين والمراقبين, الجديد والإبداع كانا سيدا المواقف في كل خطوات عماد, فقد تعلم أنّ المفاجأة هي عنصر أساسي من عناصر الانتصار.
علماً أنّ، المواجهة يجب أن تكون على أكثر من جبهة, وأدرك أنّ لبّ المعارك وقلبها يجري في فلسطين, ولذلك لم تكن فلسطين ساحة أخرى خارج جغرافيا أرض المقاومة الإسلامية, بل كانت جزءاً لا يتجزأ من أرضها وساحاتها التي يخوض فيها فنونه وعلومه, حتى قال عنه أمين عام منظمة الجهاد الإسلامي في فلسطين: إننا يمكننا القول بأنه قد لا يكون هناك صاروخ في غزة إلا وبصمات الشهيد عماد عليه.
ولذلك لم يمر نصر غزة رغم غيابه عنا إلا نصرا يضاف لانتصارات عماد مع إخوته في فلسطين كما هي انتصاراته في لبنان مع إخوانه في وطنه العزيز.
المهمة كانت كبيرة والأمانة أعظم, فالعدو هو كل أعداء الإنسانية من صهيونية وإمبريالية واستعمار قديم وجديد, ورجعية تابعة خانعة متآمرة, والمتمردون الثوريون هم من عموم المستهدفين من المستضعفين والثوريين والأحرار الذين هم غالبا ما لا يملكون المال الوفير والسلاح الكبير. فكانت المعنويات والاستقامة والتفاني والصبر والإيمان أسلحة سرية تعوض ما كان العدو يفتقده فهي التي كانت ترفد الأحرار بالعزة والعنفوان والصبر وحسن الأداء.
كان يعلم أن المهمة صعبة والهدف كبير والثمن غالٍ, ولذلك لم تكن النكتة, والترويح عن إخوانه وعن نفسه بها, إلا فناً من فنون تصغير الكبير وتهوين الصعب, فالصراع رغم ضراوته ما هو إلا لعبة البشر بين الصالحين والطالحين. وهكذا ورغم صرامته, ما اطلّ على رفاقه ومحبيه إلا ببشاشته وابتسامته ونكتته المعهودة.
كانت عقيدته راسخة بأن صاحب النصر والعصر والزمان آت لا شك في ذلك, وكانت همته طامحة منشغلة بالتمهيد له ولتعبيد طريقه والسعي للوصول إلى مصاف جنده ولذلك استحق لقب "جندي الإمام" بامتياز من رفاقه ومحبيه ممن تابعه عن قرب ودراية بمهامه وأبعاد شخصيته.
أراد العدو باغتياله إضعاف المقاومة والانتقام من أحد أعمدتها, فإذا بغباء فعلته يؤسس إلى نصر آت منحوت فيه أسم عماد, كراسم لإستراتيجيته, وناظم لإيقاعه, والغارس أشواق السعي للقائه بين آلاف الشباب الذين ينتظرون الأمر الصادر عبر الزمان لتحقيق حلم الأجيال والمحلّقين إلى قمة القمم ونصر الانتصارات ومنتهى الأقداس في البيت المقدس حيث كانت معارج أشرف البشرية وبداية معارف كامل الإنسانية, وكما هو وعده في ظهور الحق على الباطل ولقاء روح الله والقائم بأمره والساطع بنور ربه ومجري عهده لمن سيرثها من عباده الصالحين, وكل المجاهدين العارجين شوقا على درب الشهادة إلى السدرة العالية والمواقع الظاهرة على كل المواقع, والجنود المجندة لام المعارك في انجاز التتبير بأعدائه ومحو الظلم والتنكيل عن عباده.
لقد سبق هذا الطائر إخوانه بالشهادة, وهم في سفرهم على دربه يطيرون والى السدرة العلية يتوجهون, ليلتحموا كالأسطورة في وحدة الحق والحقيقة كطيور السِّيمرغ , والسِّيمرغ الذي اختصر بأسطورته كل الحقيقة, فكان عماد المقاومة ورائدها وملهمها وقائدها إلى نصر آت ولو بعد حين وبعد غيابه عن الساحات والهدايات. فهو حاضر مع غياب, وغائب حاضر بلا ارتياب.
بقلم الأستاذ أنيس النقاش
منسّق شبكة الأمان للبحوث والدراسات الاستراتيجية
بتوقيت بيروت