رسم ابو ابراهيم "مَسْبَحَتُه " وصمت. أصبحت الكُرة في ملعبي.
"صَفَنِتْ صَفْنِة طويلة" (شردت) ، واحْتَرْت من
أينَ أبدأ بالإجابة. لا مجال للتهرب، تهمتي معروفي، والجماعة "كَمَشوني (أمسكوني)
كَمْشِ اليد وبالجرم المشهود"....
في تلك
اللحظة، والصمت مُطْبق في غرفة التحقيق، حضر في بالي مشهد مهيب: قبل فترة من
اعتقالي، كنا مجموعة من الشباب، جمعتنا القيادة في مكان ما، حيث قبَّلْتُ القرآن
ووضَعْته على رأسي، ثم طلبوا مني أن أقسم عليه، أنّه في حال وقعْت في الأسر، أن لا
أعترفَ بشيء، حتى لو على "قَطِعْ راسي..."
في تلك
اللحظات، كان الموقف صعبًا. سؤاله واستعراضه للأمور كان محرجًا. لا مجال للتهرب..
عندها، قلت في نفسي: حَشْرُهُ لي بهذه الطريقة، يَسْتوجِبُ
ردًا أكثر إحراجًا لهُ، فأجبته:
"لَيْك(انظر)... لا تِتْعِبْ
قلبك، ولا توجع راسك معي... أنتو احتليتوا أرْضنا ونحنا عمْ ندافع عن أرضنا
وعرضنا، وأينما سنحت لنا الفرصة أن نقاتلكم سنفعل"....
جوابي له نزل
عليه كالصاعقة. تغير لون وجهه، عدّل جلسته، محاولاً استعادة المبادرة.
وبعدما "صَفَنَ" قليلاً قال لي: "لَيْك، أنا كمان
"شَغِلْتي" مقاوِلْ... لا تْنَظِّرْ ولا تِتْفَلْسَفْ عليّي...
بِ تقاتلوهُمْ، بِ قاتْلوكُمْ... بْ تحاربوهم، بِ حاربوكُم...بْ يِحْتلوا أرضكم،
بْ تعملوا عليهم عمليات، أنا كل هالقصص ما إلي علاقة فيها... "انفِزْروا
منكم لبعض، وْحَدَّكْ ستين جهنم إنتَ وْياهُمْ"... أنا هون "شَغِلْتي"
آخُدْ منك هذه المعلومات التي رسمتُها لك، وبس خلِّصْ مِنَّكْ بْ حولك
"عالجامعة" (الإسم المتداول لمعتقل أنصار بين المحققين).
عندها أيقنت أنه يريد جزءًا محددًا من المعلومات. وبعد محاولات عدة من
الإنكار، قال للجنود: "رجّعوا عالزنزانة وما تْخلّوا ينامْ"....
أرجعوني إلى الزنزانة، ثم قيدوا يديّ بـ "الكَلَبشات"، وبدأوا
"بِشدِّها" بقوة حتى انْحَزَّ معصَمَايْ. ساعات قليلة، وبدأتْ يداي
بالتَّورم شيئًا فشيئًا حتى وصَلْتُ إلى مرحلة لم تعُدْ فيها "الكلبشات"
ظاهرة، وأصبحتا مغطيتين "باللَّحم"
المُتَورّم. إزْرقَّت يَداي ولم أعُد أشعر بهما، ثم بدأ الدم يسيل من معصمي.
بعد أنْ شعر الجنود بخطورة الوضع، حاولوا أن يَفكوا القيود، لكنهم لم يستطيعوا،
إذ إنهما كانتا "ذائِبَتَيْن باللَّحم". عندها أحضروا شيئًا يشبه المنشار،
وقاموا بِنَشرها حتى نجحوا في ذلك، مع ما رافق ذلك من جروح في يدي. وحتى الآن،
وبعد مرور ٣٠ سنة على الحادثة، لا تزال آثار "الكلبشات" ماثلة في
معصمي.
مر يومان، قبل أن يستدعيني أبو ابراهيم للجلسة الثانية مفتتحًا الحديث:
-" شو؟ غيرت رأيك أو بعد؟".
- أجبته: إيه غيرت رأيي. وصرت أخبره بأسماء وهمية كنت قد اخترعتها خلال يَوْمَي
الاستراحة، إضافة إلى حكاية كنت قد فبركتها أيضًا من نسج خيالي.
بعد أن انتهيت من السرد قال لي:
- كذّاب!!...
- شو كذّاب؟؟!!
- إيه كذّاب، مبينة انّو قصة مْفبرَكة. يلّا رجّعوا عالزنزانة...
طبعًا، العودة إلى "القاووش" كالذهاب إلى المشنقة، لما فيه من
تعذيب ومعاناة وبرد "ولَكْوَشة (وكز) بواريد" وقلة نوم...
مرت أيام، عاد بعدها أبو ابراهيم واستدعاني للمثول أمامه، حيث كنت قد فبركت
له قصة أكثر واقعية مع أسماء وأماكن وهمية جديدة، وسردتها له، وبعد أن انتهيت جاوبني:
- كذّاب... رَجّعوا عالزنزانة...
عندها، عرفت أنّه لا مجال للكذب عليه، يبدو أن أبا ابراهيم هذا لا يمر عليه
شي هكذا. في ذلك الوقت عرفت -عبر أحد المعتقلين الجدد- بأن "جودت"
و"أحمد" قد استشهدا، فَنَسجْتُ رواية جديدة لأُخْبِرَها لأبي ابراهيم في
الجلسة القادمة. عندما حان وقت التحقيق، رَوَيْتُ له القصة الجديدة قائلاً له:
" يا حبيبي أنا لا دخل لي. أنا كنت في بيروت،
و"جودت" كان مسؤول عن كل العملية. هو أرسل بطلبي، وأخبرني أنه جهّز كل
شيء، وانه علي فقط الصعود إلى الجنوب للتنفيذ.
عندها تنحنح ابو ابراهيم وقال: " بدي خبرك هالقصة، لربما استفدت منها،
وبدأ بالرواية:
" يُحكى في غابر الأزمان، عن ملكٍ كان لديه في باحة قصره
بركة ماء، وكان في هذه البركة سمكة ذهبية. كان هذا الملك ينزل كل صباح لتفقد
السمكة التي كانت تُفرِّجْ عنه همومه وتزيد من سعادته. ذات صباح، نزل الملك كعادته
فلم يجد السمكة، فصرخ في جنوده قائلاً: اذهبوا وفتشوا عن الذي أخذ السمكة. وبعد ساعات،
حضر الجنود وبرفقتهم راعٍ فقير، وقالوا للملك: هذا هو يا سيدي الذي أكل السمكة!.
سأله الملك: لم أكلت السمكة؟ أما تعلم مكانتها عندي؟
فرد الراعي: كنت جائعًا، فمررت من هنا وأكلتها. فقال له الملك: أمامك ثلاث عقوبات،
وعليك ان تختار إحداها: إما أن تأكل ٥٠ كيلو سمكًا نيّئًا، أو أن تأكل ٥٠ جلدة، أو
أن تدفع ٥٠ ليرة ذهبًا.
فكر الراعي قليلاً، وأجاب: أسهل أمر أكل السمك النيئ.
أحضروا له ٥٠ كيلو سمكًا نيّئًا وبدأ بالأكل: أول كيلو، ثاني كيلو، ثالث
كيلو... حتى كاد ينفجر، ثم تقيأ السمكات.
فأوْقَفَ الأكل وقال: طيب، أستبدل السمك بخمسين جلدة.
فغمز الملك جنوده لِيَقسو عليه بالجلد، وبدأوا بِجَلده: أول جلدة، ثاني
جلدة، ثالث جلدة... ما إن هموا بالرابعة حتى صرخ قائلاً: "خلص، دخيلكون (أرجوكم)
، ما عاد فيي اتحمل". فلم يبق أمامه إلّا أن يدفع خمسين ليرة ذهبًا، وبالفعل
قال للملك وأعوانه: أدفع الخمسين ليرة ذهبًا".
فقال له الملك: " قلنا لك ذلك منذ البداية، فعلام كبدت نفسك هذا
العذاب؟".
ختم ابو ابراهيم قصته قائلاً لي: "وأنت سيحل بك ما حل بالراعي، ستظل
تكذب وتكذب وتكذب إلى أن تشبع من الضرب. إحكِ الحقيقة ووفِّرْ على نفسك العذاب، لأنه
لن تنجو إلا بالاعتراف".
محمود نضر/أنصاريات/موقع المقاومة الإسلامية
بتوقيت بيروت