- هيّا ناولني المزيد من الرصاص يا عباس.
- علي يجب أن أقول لك أمرًا هامًا.
- دعني أجهز على هؤلاء المرتزقة أولاً.
- لا، أريد أن اقول هنا. علي، سأسافر.
- الى أين؟ الى الجنة؟!بالله
عليك لا تزد همي الآن! يكفيني مهدي وكرار الذين زففناهم اليوم!
- لا، ليس الى الجنة، بل الى افريقيا.
- يبدو أنّ الحرب قد اصابتك بالهذيان! هيا يا صديقي، ساعة وننتهي من هذه النقطة. تمالك أعصابك قليلا!
لم تمر ساعة من الزمن حتى هدأت الاشتباكات قليلاً في القصير.
جلس الشباب لتناول اليسير من الطعام بعد يوم حافل بالكثير من القتلى في صفوف التكفيريين، وبعض الشهداء الذين نقلوا الى الحدود.
- هم السابقون ونحن اللاحقون. لكن متى؟؟
- ألن تتزوّج يا علي قبل أن تلحقهم؟
- وهل أضمن أن أعيش الى الغد كي أحدّد ما إن كنت سأتزوج أم لا.
- لماذا تتحدّث بهذا الأسى؟ أرى بريق الشوق الى
عروسك قد تلاشى، بات مشوبًا بالألم!!
- نعم، هي ما عادت تتحمل غيابي الطويل
والمتكرّر. في البداية، كانت تلقاني بالدموع، تعبّر عن اشتياقها وخوفها. ورويدًا
رويدًا بات هذا الخوف ينعكس على علاقتنا. صارت تقول بأنّ أعصابها لم تعد تحتمل
غيابًا قد يأتي بي شهيدًا في أية لحظة.
- هذا حال زوجتي أيضًا.
- حقًا! هات أخبرني ما قصة إفريقيا هذه! ظننت أن مسًّا من الجنون قد أصابك!
- تردّدت كثيرًا قبل أن أقول لك. حتى إنني فكّرت بألا أخبرك. لكنني خفت عليك من الصدمة. نعم سأسافر الى افريقيا.
لفّت عليٌّ دهشة مخيفة. سواد كثيف اجتاح عينيه بعد أيام من العراك القاسي مع التكفيريّين تارة، وخوفه من خسارة خطيبته تارة أخرى. وها هو الآن صديق العمر والدورات والجهاد يضعه أمام واقع ليس أقل ألمًا، الإنسحاب!
- عباس! هل أفهم أنك ستنسحب من هنا؟
- نعم.
- كيف؟ لا أفهم كيف؟ لقد كنا فتية، أعمارنا لا
تتجاز الثامنة عشر عندما قرّرنا الصمود في القرية أيام تموز. لم تكن خبراتنا
تؤهلنا لخوض تلك المعركة. لكننّا أبينا
الانصراف، وانتصرنا. والآن، وبعد كل الدورات التي خضعنا لها، والتجارب المهمة التي
خضناها، تريد أن تنسحب، لماذا؟!
- أريد أن أبني بيتًا، وأحافظ على عائلتي.
- والبيوت التي تنتظرنا في الجنة؟!
- نحن نعيش في الدنيا، أنا أسكن عند أهلي، اشتريت أرضًا لكن ستمر سنوات ريثما أنتهي من بناء بيت مستقل، بينما إذا سافرت فسأدّخر المال الكافي في غضون سنوات قليلة. ثم إن زوجتي لم تعد تحتمل واقعي هذا.
بدأ الإنفعال يظهر على وجه عليٍّ وهو يتحدّث:
- ومتى كان انتماؤنا للمقاومة قائمًا على مكتسبات مادية! زوجتك تعرف من أول الطريق بأنّك مقاوم، وأنك لن تجلس بقربها عندما تشتعل الحرب.
- حاولت معها كثيرًا لكن دون
فائدة. تقول إن الحرب في القصير مفتوحة، وأنّها لا تريد أن تخسرني.
صمت علي بوجه شاحب عاجز عن النطق بأية كلمة. نظر الى عباس
المطرِق الى الأرض خجلاً قبل أن يمسك ببدلته ويقول له صارخًا:
- انظر اليّ يا عباس! هل ستترك دماء الشهداء هنا وتمضي؟ انظر الى يدي، كلما غسلتها شعرت بأن دماء أصدقائي تزداد عليها وضوحًا وإشراقًا! أليس لديهم بيوت وأبناء وزوجات؟ ألم يكن للإمام الحسين عيال عندما قدّم نفسه للذبح في كربلاء؟ كيف تترك أخته وحيدة هنا؟ إنّها كربلاء من جديد، هل ستتخاذل كما فعل أهل الكوفة؟
- كفى، اتركني يا علي، لا تحمّلني أعباء أكثر، أنا رسبت، نعم رسبت في الاختبار، لست مثلك ولا مثل الشهداء. لا أستطيع إكمال الدرب تحت هذه الضغوطات: زوجتي، أهلها، أهلي. ابنتي باتت لا تعرفني. صارت تبكي عندما أدخل الى المنزل. أتظن بأنني لا أتألم من قراري هذا. ثم نحن إلى أين نمضي! إلى النصر؟ نعم، لكن الى عدد كبير من الأيتام والأرامل والثكلى. لن تنتهي معركتنا في القصير!
ثم تركه وقام من مكانه.
جلس عليٌّ واضعًا رأسه بين ركبتيه، وسمح لدموعه بالهطول كالمطر.
في كل مرة تطلب منه وعدًا بأن يرجع سالمًا، لكنه يعجز عن تقديمه لها. قبل أن يشارك في عمليات القصير، كانت تنتظره بفارغ الصبر، كي تريه ما اختارت من أثاث لبيتهما، وما جلبت من ثياب وما رأت من فساتين للعرس، لكن بعد ذلك باتت لا تخطّط لتلك الحياة، وعندما يسألها عن السبب تجيبه: "لأنني لا أضمن عودتك". فيختلط سلامه المؤقت بوابل من الرصاص. بات يعيش الحرب في قريته الآمنة أيضًا.
مسح دموعه قليلاً وهو ينظر الى أصدقائه الملتحفين ساعات الهدنة. يفكر بهم، بزوجاتهم، بأولادهم، بأمهاتهم وأخواتهم وحياتهم. لم يلحظ يومًا أنّ أحدًا منهم شكا من ضغوطات تشبه ضغوطاته. جميعهم يتحدثون عن أهلهم بفكاهة وفرح. لا بل إنّ أهل هؤلاء هم دافع لأبنائهم نحو الجهاد والإنتصار!
لماذا اختارت "ضحى" هذا الخط؟ لماذا "رسب" عباس كما قال؟
"ربما لا يجب أن ألوم ضحى. فالغياب المتكرّر قاسٍ. قاس عليّ أنا، فكيف لا يكون قاسيًا عليها. أنا نفسي تغيّرت، بت اشعر أحيانًا بأنني غريب، أراها لأول مرة. بتُ لا أشاركها تفاصيل حياتها. كلما حدثتني وجدتني ساهمًا في عالم آخر، فتشعر بأنّ عليها تغيير الحديث، وهذا ما أوجد نوعًا من الجفاء في حبنا. كنّا نتنازل كثيرًا. لكن الآن اتسعت الهوة بيننا. بات كلٌّ منا يريد خيارات قد لا تناسب الآخر. كبرت رقعة المشكلات، حتى باتت تشتمل على الألوان والثياب وكل شيء".
يقوم
من مكانه، يرمق المحيط المدمَّر ببصره، ويقول بحسرة: " أعرف بأنني أحمّلها
أعباء كثيرة، لكنها باتت لا تشعر بي، لا تقدم لي كلمات الدعم والتشجيع. أولست
أحارب من أجلها وأجل قضية تؤمن بها؟ لماذا تظلمني هكذا؟ لماذا تفتعل المشكلات في
الوقت الذي يجب أن نستغل كل لحظة نمضيها سوية لخلق السعادة؟ صرت لا أشعر بقيمة
وجودي في حياتها.
حتى أهلي، كأنهم اعتادو غيابي. بتّ غائبًا حتى عندما أكون
بينهم. يتصرّفون وكأنني مشروع طائر مهاجر. لكنني ما زلت حياً!".
وقبل أن ينام، لا يغفو دون أن تغمره ذكريات أيام كان فيها سعيدًا. تذكر عندما أحبها وخطبها، أيام كانت أجمل ما في حياته "لن أدع هذه العلاقة تموت. أنا أحبها. لا أريد أن أخسرها. وهي تحبني، وستعود كالسابق انشاء الله. سأقدم المزيد من التنازلات، أريد أن أحافظ على خطيبتي وسأتزوج قريبًا، إن أعطاني الله عمرًا".
- كلما غفوت تخيّلت أنني سأستيقظ على خبر استشهادك! أستيقظ مذعورة مرارًا في الليلة الواحدة.
- الأعمار بيد الله يا ضحى. قد أحارب مئة عام ثم أموت بحادث سير. هل استشهد جميع المقاومين قبل التحرير؟ وهل استشهد جميع المقاتلين في الحرب؟
- أعصابي لم تعد تحتمل. صرت أنسى بأنني مخطوبة. تغيب كثيرًا، وكلما رأيت شابًا مع عروسه، تألمت. لماذا لا نعيش مثل باقي الناس؟!
- لأنّنا اخترنا دربًا آخر.
- لكنّه درب صعب.
- أرى أنّ أهلك أثّروا في آرائك.
- لا، لكنهم يريدون أن نتزوّج. مضى عامان على عقد قراننا.
- نعم، سنتزوج. لكن أمهليني بعض الوقت. ايام قليلة وننتصر.
- أليس هذا ما قاله صديقك مهدي لزوجته قبل أن يذهب آخر مرة؟ أين هو الآن؟
- ضحى! لقد تعبت، تعبت كثيرًا. أنت تحملينني أعباء كثيرة. باتت قصتنا محور حديث أهل القرية. لماذا تفعلين هذا؟
ثم هدأ قليلا وقال:
- ألا تتذكرين أيامنا الجميلة؟!
- غيابك أنساني كل جميل. مضى عامان وأنا أنتظرك بفارغ الصبر كلما غبت. أتحمل الغياب المر. أراك مرة أو مرتين في الأسبوع، أقول في نفسي: غدًا ينتهي من دوراته الصعبة ونتزوج. عندما انتهت دوراتك بدأت الجهاد في القصير، أخلفت كل مواعيدك مع النجار والحدّاد. صرت أتابع كل المهمات بنفسي. لكن ماذا بعد؟ الى متى سأنتظر؟ أصدقاؤك يسقطون شهداء، واحدًا بعد الآخر. صديقك عباس سيسافر، زوجته سعيدة بذلك. أنا لا أطلب منك ترك العمل، ولكن، أُشعر بي قليلاً!
- ماذا افعل؟
- حدّد موعد العرس.
- لا أستطيع، هل ترضين أن نتزوج، وأمضي معك ايامًا فقط ثم أذهب؟
- أعرف بماذا تفكر:أن أرمَّل الآن، أهون من أن أرمَّل بعد الزواج.
- ضحى، ماذا أفعل؟ هذه حياتنا وهذه ظروفنا الحالية.
- غيّر مكان العمل. أُطلب نقلك الى لبنان! إعتذر عن الذهاب الى سوريا.
- لا، لن أفعل.
- إذًا نذهب عند الشيخ. لا أستطيع إفناء عمري في الانتظار.
- وما هي خياراتك؟
- إن لم تنقل عملك وتحدد موعدًا للزواج، فسأطلب الطلاق.
- الطلاق يا ضحى؟
- الطلاق سيكون أهون من الانتظار. مللت يا علي. على الأقل عندها أعرف أنني عدت عزباء، وأنني لا أنتظر أحدًا.
- لا. لا
تفكّري بهذه الطريقة. كيف تلفّظت بهذه الكلمة؟ ولكن، مهلكِ، سنذهب عند الشيخ كما
تريدين، لكن يجب أن تأخذي وقتًا لتفكّري جيدًا في قصتنا، فأنا لا أتخيّل حياتي
دونك.
- إذًا أنت أيضًا يجب أن تفكّر.
هواء ناعم يهب في القصير. يحمل عليٌّ علم حزب الله مع آخرين، ويتقدّمون.
صوت "الله أكبر" يملأ المكان، يرتفع حاملاً عبق دماء شهداء سقطت، ودموع أحبة أينعت - وأخيرًا - نصرًا هزم كل مخطّطات العالم.
يمسح دموعه بكمه، ينادي "كرار" و"مهدي" و...و... وكثيرين. يتمنى لو يشهدون نصرًا خاله العالم محض خيال. يقف على أعلى التل، يرفع يديه شكرًا لله، ثم يضع يده في جيبته. يخرج منديل عباس الذي أعطاه إياه قبل أن يهاجر. ثم يخرج شيئًا آخر. يمسح المزيد من الدموع. يحفر حفرة صغيرة في التراب، ليضع فيها خاتمين حفر عليهما يومًا "علي وضحى".
زينب صالح
موقع المقاومة الإسلامية في لبنان
بتوقيت بيروت