ما إن تدخل بلدة "دير
قانون النهر" جنوب لبنان حتى تشعر أن كل بيت فيها، هو بيت الشهيد المجاهد
أحمد جعفر قصير. فمن مدخل البلدة الشمالي وحتى بيت الحاج جعفر، تدرك أن للشهيد
أحمد أثرًا كبيرًا على قريته. اسمه يزين كل التفاصيل، ويحضر في الذكريات. الكل في
البلدة يعرفون كثيراً عن أحمد، فذاك الشاب الذي افتتح قافلة الإستشهاديين الأوائل
في العام 1982، زرع في كل واحد منهم حكاية ترافقه أينما حل.
منزل أهله، الذي اعيد بناؤه بعد عدوان تموز في العام 2006،
يشهد على الكثير
مما قدمه أحمد للمقاومة. فالشهيد الذي استهدف بسيارته المفخخة مقر الحاكم
الإسرائيلي عند بوابة صور في 11/11/1982، جمع وخبأ في كل المساحات المجاورة للمنزل
عتادًا وسلاحًا. وعندما كانت والدته تريد جمع الحطب للتدفئة، كان عليها أن تعرف
جيداً أي حطب تختار، فأحمد موّه بالحطب كل المخازن المدفونة في "حاكورة"
المنزل.
تحت صورة تجمع أحمد بأخويه الشهيدين، موسى وربيع، يجلس والده، الحاج جعفر قصير، ويحدث عن الساعات الأولى لوصول احمد الى لبنان، بعد أن لحق بوالده من السعودية، حيث كانوا يقيمون. يقول أبو موسى:"اول ما عاد أحمد من السعودية الى لبنان عرفت بوصوله من قوات الإحتلال الصهيوني، فقد اتصلوا بي يومها وقالوا إن ولدك أحمد في صور ويثير الشغب، فإنزل وخذه"، ويتابع: "نزلت الى صور وإذ بي أرى احمد يراشق جنود الاحتلال بالحجارة، ويرفض أن يعبر حواجزهم بتصاريح مرور صهيونية، رافضًا ان يكون للإحتلال مكان في لبنان. عندها امسكت ولدي وقلت له: إهدأ، ليس الآن الوقت المناسب لقتال الصهاينة، فهم سيقتلونك بدم بارد. نظر إلي أحمد وقال: سيأتي يوم وترى ما سأفعل بهم يا أبي". وبلغته القروية يلخص والد الشهيد رؤية أحمد للصهاينة بالقول "ما فاتو على راسو، ما ركبو بمخو".
أحمد، الفتى المقاوم الذي استشهد عن 18 ربيعًا فقط، في عملية حصد فيها أكثر من 140 ضابطًا وجنديًا صهيونيًا، حمل نزعة المقاوم منذ صغره، يقول والده. فيوم كان للشهيد محل خضار يديره، كان يرفض بيع الإسرائيليين. فكلما حضروا الى الدكان، سارع أحمد إلى إغلاق الباب قائلاً: "لا نبيع الإسرائيليين".
ذلك الشاب الذي ادهش العالم
بعمليته، وأدخل الكيان الصهيوني في حداد على قتلاه، لطالما خاض معارك ضد قوات
الإحتلال في بلدته، فالعمليات كانت حينها شبه يومية. والدته أم موسى تؤكد أن إبنها
مذ عاد من السعودية وحتى استشهاده، فإن أيامه التي قضاها في المنزل تكاد تُحصى على
أصابع اليدين، فمعظم وقته كان يقضيه مع المقاومين.
وفي قصة طريفة ينقلها والد الشهيد، والبسمة تخالطها الدمعة
على وجهه، يقول إن "الشهيد أحمد منذ أن دخل الصهاينة البلدة ووضعوا فيها
شعاراتهم وأعلامهم ويافطاتهم على الطرقات، كان حريصًا على أن لا تبقى طويلاً في
مكانها. فكان ينزعها ويكسرها ويرميها بعيدًا. حتى أنه راق لأحمد أحيانًا أن يقلّب
مكان "الآرمات"
الإسرائيلية، ليحتار الصهاينة اي طرق يسلكون فيتيهون، ويسهل حينها على المقاومين
استهدافهم هنا وهناك، من خلال نصب الكمائن لهم".
ليست صورة الشهيد أحمد وأخويه الوحيدة في صالون منزل جعفر قصير، فصورة الشهيد القائد عماد مغنية تتوسطه أيضًا. يرفع ابو موسى سبابته نحو الصورة ويقول: "الحاج عماد رحمه الله هو من جهّز سيارة ولدي أحمد، وهو من دبّر عمليته. حتى أنه كان معه حتى آخر ساعات حياته. فهو قاد معه السيارة الى صور وعندما وصلا قرب المقر العسكري، نزل الحاج من السيارة ودخل أحمد المقر وفجّر نفسه".
نسأل عن أحمد قبل العملية،
يأخذ ابو موسى نفسًا عميقًا ويقول:"أحمد قبل العملية بيومين خرج من المنزل
ولم يعد من حينها". ويتابع: "بعد العملية لم نكن نعرف إن كان أحمد هو
منفذها أم لا، فكان احمد قد أوصى أن لا يتم الإعلان عن اسمه حتى تحرير قريته من
الإحتلال، حفاظًا على سلامتنا. تلك السنوات الثلاث، بين العملية وكشف الأمين العام
لحزب الله السيد حسن نصر الله عن اسم المنفذ، كانت صعبة عليّ وعلى امه. ما كنا نعرف
أين هو. هل هو مخطوف أم مقتول أم مأسور؟!". تدمع عينا الرجل السبعيني، وبعد
نفس عميق يكمل:"ما عرفنا اين كان احمد حينها".
يروي أبو موسى كيف كان يجول في كل الأماكن، التي من الممكن أن يكون أحمد فيها. ذهب الى ثكنات الجيش، تواصل مع الجميع، سأل الأهل والأقارب... ولكن لا أحد يعرف أين أحمد. وعن يوم الإعلان عن اسم منفذ عملية تفجير مقر الحاكم العسكري، يصف الحاج جعفر نفسه وكأنه اخرج من بئر عميق: "في ذلك اليوم كنت فرحًا سعيدًا، لم أقبل وقتها أن أتقبل بولدي التعازي، بل كنت أتقبل التهاني، فالإعلان أن ولدي هو صاحب العملية أعاد إلي روحي، كان ذاك اليوم عرسًا عندي".
لوالدة الشهيد اشتياق عميق لفلذة كبدها أحمد، إلا أنها ترى أن الموت في سبيل الله خير من أن يقضي ولدها على فراش الموت. بكته كثيرًا ولكنها تتمثل مسيرة سيد الشهداء الحسين (ع)، ولذا فإنها لن تتوانى عن إرسال أولادها لو كانوا أحياء الى جبهات المقاومة، لأن الجهاد في نظرها "باب العزة والكرامة". تلك السيدة التي قدمت 3 شهداء تأسيًا بالحسين(ع) وزينب(ع) – كما تقول- لا تستطيع أن تخفي مشاعرها وحزنها على أولادها عندما تقصدهم في جبانة البلدة، حيث الزيارة شبه يومية. تمسح الأضرحة بيدها ودموعها، وهناك "أستذكر أولادي الباقين فأدعو لكل مجاهد بالثبات والنصر".
يخرج الواحد منا من منزل أحمد قصير، بعد أن سمع ورأى ما يثلج الصدر، ليزداد اقتناعًا بأن هذه المقاومة التي قمدت الغالي والنفيس في الدفاع عن الأرض والناس، ستدفع ما يستلزم منها أيضًا للدفاع عن الحدود وحماية المقدسات ودرء المخاطر الصهيونية، وأهلها أمامها يقاتلون معها.
موقع المقاومة الإسلامية في لبنان
بتوقيت بيروت