لم يكن عمار قد بلغ عامه الرابع عشر بعد يوم تحرر الجنوب والبقاع الغربي من الاحتلال الصهيوني. ولم يكن يعرف المنطقة المحررة وقريته جيدًا، فقد غادرها في السادسة من عمره يوم غادرها أهله متوجهين نحو بيروت، هربًا من قمع العملاء اللحديين وتعدياتهم المستمرة على والده النجار.
فيصل الأشمر
يومها حمل الوالد أبناءه الأربعة وزوجته في سيارته العتيقة تاركًا خلفه في القرية منزلاً ومستقرًا وورشةً للنجارة، وذكريات الأيام الجميلة. نشأ عمار في بيئة مقاومة، إذ كان أخواه الأكبران متفرغين في المقاومة، في حين كان الثالث في صفوف التعبئة العسكرية. وكثيرًا ما كان يخلو البيت من أحد هؤلاء الإخوة، أو من اثنين منهم أو من الثلاثة معًا، مشاركين في دورات عسكرية أو مرابطين على الثغور الجنوبية. ولكم حاول عمار جاهدًا الالتحاق بدورة عسكرية من دورات المقاومة، ولكم جاءه الرفض من المعنيين متذرعين بصغر سنه، وضرورة مواصلة دراسته المتوسطة. ولطالما قضى ليله باكيًا متضرعًا إلى ربه أن يلهم المعنيين الموافقة على طلبه، فإذا غلبه النوم رأى نفسه في مواجهة عسكرية مع العدو، وكان فيها قاتلاً مرة وجريحًا ثانية وشهيداً ثالثة. وجاء يوم التحرير من العام ألفين. دخل عمار قريته مع أهله ورفاقه دخول الفاتحين المنتصرين، وكان يشاهد بذهول سيارات وعربات جماعة لحد العسكرية وهي تعبر الطرق الجنوبية بأقصى سرعتها فرارًا وخوفًا من وصول المجاهدين إليهم. عاد أهل عمار للسكن والسكينة في قريتهم. نفض الوالد الغبار عن آلات ورشة النجارة، وعاد يستقبل زبائنه من القرية والجوار، يعاونه عمار – صيفاً حين لا مدرسة – وشاب من الجنسية السورية. في حين بقي في بيروت الإخوة الثلاثة لضرورات أعمالهم، مستغلين عطلات نهاية الأسبوع لزيارة القرية والاجتماع بالأصدقاء وإحياء ليالي القرية بالسهرات العامرة، فهذا يستذكر معاناته مع الإحتلال، وذاك يروي وجع غربته وبعده القسري عن القرية.
كبر عمار، كبر بفرح لأنه سيتمكن من الالتحاق بدورة عسكرية للمقاومة، بعدما كان قد أنهى دراسته الثانوية، ولأنه سوف يتمكن من الدفاع عن الجنوب مثل إخوته ورفاقهم. آن الأوان ليشعر بعظمة أن يكون مجاهدًا في سبيل الله. مرت السنوات حتى جاء ذاك اليوم التموزي من العام ألفين وستة، الذي أعلنت فيه المقاومة الإسلامية عن أسر جنديين من جنود العدو. طار قلب عمار من الفرح. وفرح أكثر حين جرى الاتصال به ليكون على جهوزية عسكرية مع رفاقه المجاهدين استباقًا لأية تطورات يلجأ إليها العدو انتقامًا لمصيبته بالجنديين الأسيرين. وحصل ما توقعت قيادة المقاومة، ولم يترك جيش العدو وسيلة تدميرية لم يستعملها ضد المقاومة وأهلها وبيوتهم ومحاصيلهم الزراعية وكل ما يملكون.
شمل العدوان معظم الأراضي اللبنانية، دون أن ينال من عزيمة المجاهدين، الذين لم يغادروا القرى الجنوبية الحدودية، وظلوا يقاومون العدو من شارع إلى شارع. كانت مجموعة من قوات العدو تقترب من أحد البيوت في قرية عمار. صرخ أحد عناصرها: "افتح الباب جيش الدفاع". كان عمار قد غادر البيت نفسه مع ثلاثة مقاومين قبل نصف ساعة فقط. دخلوا إلى بيت آخر في الجهة المقابلة. كانت المسافة بين البيتين قليلة. عمار يحمل رشاشًا متوسطًا من نوع "BKC"، وبالقرب منه عباس يحمل قاذف "B7"، بينما كان الحاج يوسف وعماد يحمل كل منهما بندقية من نوع "كلاشينكوف".
كان عناصر المجموعة المعادية قد طوقوا المنزل المقابل، ويظهرون بوضوح لعباس الذي جهزه قاذفه بقذيفة، ثم سدده باتجاه المجموعة، مطلقاً صرخة "يا زهراء". لم تنطلق القذيفة. التفت عناصر العدو إلى ناحية صرخة عباس. تلاقت الوجوه المتفاجئة: عباس ورفاقه ينظرون إلى وجوه عناصر العدو. الجميع في ذهول شديد. لحظات قليلة، كأنها العمر لكل منهم.
كان قلب عمار يطرق بشدة، حتى أرهق صوت الطرق أذنيه. لأول مرة يشاهد العدو الإسرائيلي أمامه وهو يحمل سلاحه الحربي. لأول مرة سوف يطلق النار على العدو. كانت اللحظات ما تزال تلهث، كانت الوجوه ما تزال مذهولة، كان اصبع عمار على الزناد، وكانت الصرخة من فمه تنطلق: "يا أبا عبد الله".
بتوقيت بيروت