· شهيد الدفاع عن المقدّسات مهدي نزيه عباس (السيّد وائل).
· اسم الأم : فاطمة طيراني
· محل وتاريخ الولادة: كوثرية السيّاد 01/06/1986
· الوضع العائلي: متأهل
· رقم السجل: 14
· تاريخ الاستشهاد: 02/04/2013
انعكست أضواء الفرحة في عينَي الأب الذي سرى شعور غريب في
قلبه وهو يقرأ اللافتات المباركة بذكرى ولادة مخلص البشرية الإمام المهدي عجل الله
تعالى فرجه الشريف، وأضمر في نفسه أن يسمّي طفله الذي ينتظر قدومه باسم "مهدي" تيمُّناً
بالإمام الحجّة.
*في كنف الإيمان
وفي ليلة هي خيرٌ من ألف
شهر، وعند سلام فجرها المبارك، ولد مهديُّ من برزخِ الرحم، لينسلَّ عمرهُ بين
أصابع الزمنِ كحبّات السبحة، المترافقة بالتسبيح والحمد..
نشأ مهدي في كنف أسرة ملتزمة مؤمنة، زاوجت بين سجادة
الصلاة وموقف الجهاد، فوعى وهو يسمع ويرى بطولات المجاهدين الذين هدّأوا في نفسه
غضباً أولدته الحرب التي تركت بصماتها السوداء على صفحات حياته.
بين تحويطة الغدير ومنطقة الرويس في الضاحية الجنوبية، قلّب مهدي صفحات حياته التي اتسمت بهدوء شديد، ومن ينظر في وجهه لا يقرأ سوى كلمات صامتة تشي بها عيناه اللامعتان، وقد أرخى السكون ظلّه على تلك الملامح التي لم يغيّر من رسمها غضب وإن كان ما في قلبه يفوق التحمّل.
*الله في قلب الطفل الصغير
خالط الصدق لحم وعظم مهدي. لقد كان ابن أربع سنين عندما سألته أمه عن شيء فقدته فأنكر معرفته بالأمر، وبعد أن عادت أمه إلى عملها افتقدته فلم تجده، فبحثت عنه لتجده في غرفة النوم غارقاً بدموعه، فهدّأت من روحه المضطربة وأخذته بين ذراعيها وهو يعترف لها بذنبه، فمسحت دموعه وقد سامحته وطلبت منه أن يكفّ عن البكاء، لكنه أجهش قائلاً: وإن سامحتني أنت، هل سيسامحني الله؟
الله الذي سكن قلب ذلك الطفل الصغير، فعمل على أن يجعل من قلبه ساحة طاهرة لمحل الذات القدسية، فتسلّح بالعزيمة والصبر على أموره كلها وحتى في شؤونه الخاصّة، فقد كان مهدي قد تعرّض في طفولته لحادثة مؤسفة أدت إلى مشكلة مزمنة في أسنانه ولثته اضطرته للخضوع مرات عدّة لعمليات جراحية حساسة وموجعة على عمره الصغير، فصاحَبَ الألم واستطاع عليه صبراً، وكم تألّم والداه ومَنْ حوله لما يخبئه في نفسه من وجع فلا تصدر عنه أنّةٌ ولا شكوى، بل حمد الله وشكر.
*مثابرة وعزم
تابع مهدي دراسته
الأكاديمية، إلى أن التحق بأحد المعاهد لدراسة اختصاص المحاسبة، لكن والدته خشيت استغراقه
التام ومتابعته الحثيثة للدورات الثقافية والعسكرية في المقاومة الإسلامية أن تكون
على حساب دراسته، فبثّت خوفها لأخيه الأكبر، الذي تبسّم مهدئاً من روعها وقال:
"إنّ ما وصل إليه مهدي من علمٍ ومعرفة، يؤهله ليكون قائداً من الدرجة الأولى
في جيش الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف، فقري بذلك عيناً".
وفي حرب تموز 2006، عقد مهدي العزم على الالتحاق بركب
المجاهدين الخُلّص.
وقد وجد الدنيا معبراً فتزوّد منها بما يعينه على عبور
الصراط، فبدأ بمحاسبة نفسه، ووضع برنامجاً عبادياً دقيقاً، استطاع تطبيقه بما أنعم
الله عليه من عزمٍ وثبات.
*جهاده الأكبر
مشى مهدي في طريق الجهادَين،
الأكبر والأصغر على حدّ سواء، فلشدّة تقواه، التزم بقضاء الصلاة احتياطاً، وهو
الذي لم يُفوِّت فرضاً واحداً؛ فعسى أن يكون قد أغفل وضوءاً أو سهى في ركعة، فكان
يستيقظ عند الثالثة صباحاً ليبدأ بقضاء الصلاة، حتى إذا ما أنهى القضاء شرع بصلاة الليل
إلى الفجر لتشرق الشمس من جبهته ويتلوّن النهار من بريق عينيه.
كان مسجد القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف محطّةً لذلك
الانقطاع الروحي، فلم يؤخره عن موعده برد قارس. وكان يقابل لوم الخائفين عليه
بابتسامة عريضة وسكوت مطبق.. وهناك.. في المسجد كان لمهدي مكان خاص اختاره لنفسه،
فلا يدخل أحد إلا ورآه فيه. إذ إنه حرص على القدوم قبل رفع الأذان ليتهيأ لملاقاة
ربه في صلاة تعلّم أسرارها وحافظ على دقائق مستحباتها وخاصةً أوّل وقتها. ففي أحد
الأيام كان منتظراً دوره للدخول إلى الطبيب والألم يعصفُ بأذنيه، وبعد انتظار
طويل، وما إن وصل أوان دخوله حتى التفت إلى أن موعد الصلاة قد اقترب، فترك العيادة
على عجالة وانصرف إلى المسجد.
*وجهُه مرآة القلب المجاهد
لقد أدرك مهدي أن الوصول إلى الله تعالى خالياً من الذنوب هو التوفيق لنيل الشهادة، وذلك التوفيق يستلزمُ إخلاصاً كبيراً، فتجلبب بصمتٍ غريب، وسكون زاده هيبة. لقد عامل نفسه بقسوة لانت روحه معها وصارت طوع يمينه، فلا يتحدث إلا حين الضرورة، ولا يملأ كوباً ليشرب إلا بمقدار حاجته، ولا يأكل حتى الشبع حتى لا تثقل همته على العبادة، كما كان يُردّد. وانعكست هذه التربية الروحية على محياه، وصار وجهه مرآة قلبه.
عندما قرر مهدي الزواج، بحث عمّن تعينه في الدنيا للوصول إلى الآخرة، وعمّن إذا ما أسرج خيل الرحيل، قدّمت له الزمام بيدٍ زينبية، وقد لاقت روحه من سكن لها فؤاده، وتعاهد معها على المودة والرحمة والشفاعة. وكان مهدي قد دعا الله عز وجل أن يوفقه إلى الزواج قبل الشهادة لِما في ذلك من علوّ الدرجات.
كان مهدي من أوائل الملتحقين بركب المجاهدين في الدفاع عن حرم السيدة زينب عليها السلام في الشام، وقد أنست روحه بين الجدران والأرض التي مسحها بروحه. وكم عزّ على قلبه أن يرى المرقد قد خلا من أحبائه، إلّا المتقلّدين قلوبهم أسلحةً وعتاداً. وكلما عاد إلى بيروت كان يتملكه شوق وحنين إلى تلك القبة التي منها تشرق الشمس.
*هاتف من الغيب
وحان وقت الزفاف.. وكان
زفافاً من نوع آخر، فقد تيسرت أمور الانتقال إلى البيت الزوجي في ظروف قاسية جداً،
ولكن أصابع الرحمة الإلهية فكّت ضيق الأمور، وسهلت مخارجها..
وبعد اثني عشر يوماً على زواجه، رنّ هاتف من الغيب، فلملم
مهدي ما تبّقى له من ساعات، وامتطى خيل الرحيل، ليدافع عن عمّته السيدة زينب عليها
السلام ويُستشهد دونها..
بطلٌ عشق التراب مداس قدميه.. وأنس الهواء بتسبيح وجوده..
لم يعرف التعب، ولم يستظل بظلّ الراحة، وما استكانت روحه إلا لمّا نزف دمه فوق
التراب وهو يتمتم : لبيك يا زينب..
رحل مهدي عريساً، فأضاءت
القلوب للعريس شموعاً... لن يطفئها الزمن.
نسرين ادريس قازان
بقية الله/العدد265-تشرين الأول2013
بتوقيت بيروت