ركل سامر الكرة، فاستقرّت داخل الشبكة
بدون أن يتمكّن أسعد من صدّها. صرخ الأولاد بصوتٍ واحد:
- غول!!!
كانوا يلعبون من دون حَكَم. فكلٌ منهم كان يعتبر نفسه لاعبًا وحكمًا في الوقت ذاته. اعتادوا على اللعب في هذه الفسحة من الأرض أثناء العطل الصيفية. وكان جمهور المتفرّجين مؤلّفًا من عابري السبيل أو الجالسين على الشرفات، يحتسون الشاي أو القهوة. إنّه مشهد تقليدي اعتاد الناس على رؤيته في قرى الجنوب، وكان أغلبهم قادمين من المدن لتمضية إجازة الصيف.
لكنَّ هذا المشهد كان على موعد مع حدث غير عادي وقع في ذلك اليوم. فبينما كان سامر يعبر الطريق لجلب الكرة من الجهة الأخرى، صدمته سيارة دورية تابعة لجيش الإحتلال، كانت تمرُّ في المكان. وقع على الأرض بدون حراك. خلال لحظات احتشد جمعٌ غفير من الناس على الطريق. لكنَّ سيارة الدورية تابعت سيرها، وقد استنفر عناصرها. أطلّ جنديٌّ إسرائيليٌّ من نافذة «الجيب»، وراح ينهر الناس للإبتعاد من أمام الدورية. كان جنود الإحتلال في ذلك الوقت، لا يخافون سكان المدن والقرى التي احتلوها حديثًا، حتى وصلوا إلى بيروت.
حضرت سيارة مدنية، نقلت الفتى مع عمّه
وبعض أقاربه إلى المستشفى. لم يكن والد الفتى في منزله، ساعة وقوع الحادث. وعندما
علم بالأمر توجّه فورًا إلى المستشفى. بعد بضع ساعات، أعلن الأطباء أنَّ الفتى دخل
في غيبوبة نتيجة نزيف في الدماغ، وأنَّ حالته تستوجب البقاء في غرفة العناية
الفائقة لأجلٍ غير معروف. كان وقع الصدمة قويًّا على والديه. فهو إبنهما البكر ولم
يُنجبا سواه. وهم كانوا قد قدموا من كندا لزيارة وطنهم الأم أثناء الإجازة
الصيفية. بعد ثلاثة أسابيع من القلق والمعاناة، أُعلنت وفاة الفتى. إنهارت أُمُّه
لدى إبلاغها النبأ. أما أبوه فكان في حالة ذهول. سُجِّيَ جثمانه في منزل جدّيه،
وشُيِّع إلى مثواه الأخير في جبّانة البلدة.
تقبّلت عائلته التعازي وأجرت الترتيبات اللازمة لإقامة «أسبوع» يليق بمصابهم
الكبير. تلقّى أبو سامر برقيات تعزية من أصدقائه في كندا، ومن مدير الشركة التي يعمل
فيها مهندسًا. جافاه النوم، فكان ينهض من سريره بعد أن يكون الجميع قد ناموا. يجلس
على الشرفة يُدخِّن ويحتسي القهوة. في ليلة التحضير لذكرى «الأسبوع»- وكانت الساعة
قد قاربت الرابعة عند الفجر- غادر المنزل، وهو يحمل في يده بندقية «جفت»، وفي
الأخرى كيسًا متوسط الحجم. ركب سيارته التي كان قد استأجرها لدى وصوله من كندا،
وانطلق بها إلى خارج البلدة. وجد نفسه بعد أكثر من نصف ساعة بمحاذاة الحدود مع
فلسطين. ركن سيارته في بستانٍ قريب من الطريق. صعد تلَّةٍ واختبأ بين صخورها
وأشواكها. انتظر ساعتين قبل أن تظهر حافلة كبيرة تقلّ جنودًا إسرائيليين عائدين من
خدمتهم في إحدى المناطق اللبنانية.
بدا واثقًا من نفسه، وقد تذكّر أنّه حاز عدة مرات، على ميداليات في مسابقات الرماية. فضلًا عن أنّه بدأ بممارسة هواية الصيد منذ أن كان صغيرًا.
صوّب على السائق. وما إن اقتربت
الحافلة إلى أدنى مسافة منه حتى أطلق عليها خرطوشة أتبعها بأخرى. شاهدها، وهي
تنحرف عن مسارها بسرعة هائلة، ثمّ تصطدم بالصخور مُحدِثةً دويًّا كبيرًا، قبل أن
تنقلب على نفسها مرات عديدة، لتستقرَّ على ظهرها.
صعد إلى سيارته بهدوء. أدار محرّكها. وضع «كاسيت» للمقرئ عبد الباسط عبد الصمد.
وانطلق عائدًا إلى بلدته.
في حسينية البلدة جلس بين أفراد عائلته يتقبّل التعازي بابنه. كان واثقًا من نفسه أكثر من أي وقت مضى، وقد صمّم على القيام بأمورٍ كثيرة في المستقبل.
من سلسلة قلم رصاص
مجموعة قصصية حول المقاومة
اعداد ونشر الجمعية اللبنانية للفنون " رسالات "
بقلم: فؤاد مرعي
بتوقيت بيروت