"هزيمة مدوية وضربة أمنية جديدة" استيقظ عليها الكيان الصهيوني، على حد وصف البيان الذي أصدرته حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين بعد أن تمكن خمسة من أبنائها برفقة زكريا الزبيدي من حركة فتح من الفرار من معتقل جلبوع المشدد الحراسة، بعد أن حفروا نفقًا إلى خارج السجن.
خطر داهم يحيق بإسرائيل
أصبح الفارُّون أبطالًا ووزِّعت الحلوى استبشارًا بنجاح عملية هروب الأسرى، وانتشرت «الميمات» على وسائل التواصل الاجتماعي التي تهزأ بالكيان الصهيوني وجيشه وقوته الأمنية. وهذه ليست لقطة محرجة لهذا الكيان فقط، بل خطر داهم يحيق بها، كما حذَّرت آنا أهرونهايم، المراسلة العسكرية لصحيفة «جيروزاليم بوست».
وفتحت الحادثة النار على مصلحة السجون الإسرائيلية وألقَت في وجهها بعشرات الأسئلة بشأن فشل منظومتها الاستخباراتية والأمنية في اكتشاف اختراق أمني كبير كهذا. وأجبرت هذه الحادثة الصحف الإسرائيلية على فتح ملفات كبرى والتساؤل عن الثغرات الأمنية التي أدَّت إلى الكابوس الذي يعيشه الكيان اليوم وهو يستنفر قواته في طول البلاد وعرضها للقبض على الاسرى الفارين، قبل أن ينفذوا ما هو أكثر من الهروب.
كما وضَعَ فرار الأسرى الفلسطينيين الحكومة الإسرائيلية الجديدة في مأزق أمني كبير وخطير هو الأول من نوعه منذ توليها زمام الأمور، وهي التي تواجه انتقادات بسبب عجزها عن ردع جماعات المقاومة الفلسطينية المسلَّحة. كما فتح مخزن الأسرار وخزينة علامات الاستفهام بشأن الصفقات التي تعقدها مصلحة السجون الإسرائيلية مع الاسرى من أجل الحفاظ على "السلام" داخل المعتقلات.
ولهذا، لم تجد الصحافة الإسرائيلية بُدًّا من الاعتراف بحجم العملية التي قام بها الأسرى الفلسطينيون، والتعبير عن مخاوفها مما يمكن أن يعقب هذه الخطوة، خاصةً وأن هذه العملية تأتي مع قرب الاحتفالات بالسنة اليهودية الجديدة التي يتدفق فيها الإسرائيليون إلى الشواطئ وبحيرة طبريا في شمال البلاد. وهذه طائفة من أبرز ما جاء في الصحف الإسرائيلية:
سلسلة إخفاقات أمنية
رأت الكاتبة أرييلا مارسدن في تقريرها الذي نشرته صحيفة «جيروزاليم بوست» "أن مجموعة من الإخفاقات الأمنية غير المبررة كانت وراء عملية بهذا الحجم، خاصة وأن الملايين من الشواكل الإسرائيلية رُصِدت لتصميم أجنحة أمنية، خاصة في "السجون الإسرائيلية" التي تضم "السجناء الأمنيين الخطيرين."
وتساءل التقرير عن الإجراء الأمني المتَّبع في سجن جلبوع بنقل الاسرى كل ستة أشهر إلى زنزانة جديدة، ولماذا لم يُطبَّق على هذه الزنزانة. كما وضعت علامات استفهام بشأن المعلومة التي تقول إن زكريا الزبيدي تقدم بطلب للانضمام للزنزانة التي تضم الأسرى الخمسة الآخرين من الجهاد الإسلامي، وكيف تمَّت الموافقة على ذلك، وهو أمر مخالف لبروتوكولات السجن كما هو معروف؟
وشاركها الرأي جوش براينر، مراسل الأخبار العاجلة والتحليلات من إسرائيل والشرق الأوسط في صحيفة «هآرتس» وأضاف تساؤلات عما صرَّح به مسؤول كبير في مصلحة السجون الإسرائيلية من أن مخطط بناء المعتقل بالكامل متوفر على الإنترنت لكل الناس بمن فيهم المساجين، وقال إن هذا فشل ذريع وثغرة أمنية كبرى لمصلحة السجون. ولم يُعرف بعد هل استعان الاسرى بهذا المخطط أم لا، لكن الشركة الهندسية المشرفة على الموقع أزالت المخطط من على شبكة الإنترنت فور علمها بفرار الاسرى.
وأشار مسؤول كبير في إدارة السجن أيضًا إلى الخطأ الذي ارتكبته إدارة السجن في وضع سجناء من مدن مجاورة في سجن جلبوع؛ إذ قال: «لا تضعوا أسرى من المدينة نفسها معًا، ولا تضعوا أسرى من مدينة جنين في سجن جلبوع القريب من مدينتهم التي تؤوي أناسًا قد يساعدونهم على الهرب».
أما موقع «تايم أوف إسرائيل» فقد ذكر أن "ثلاثة من الفارين كانوا قد حاولوا الهروب من السجن في السابق، ومع ذلك لم تتخذ إدارة السجن قرارًا بتفريقهم في زنازين مختلفة، بل استمرت في احتجازهم في الزنزانة نفسها. ونقل الموقع عن وسائل إعلام عبرية أن الفوهة التي خرج منها السجناء كانت أسفل برج المراقبة مباشرةً، لكن الحارس في البرج كان يغطُّ في نومٍ عميق، ولم يكتشف عملية الهرب.
كيف تمكن الاسرى من تنفيذ عمليتهم؟
تبادر الفيلم الشهير «الخلاص من شاوشانك» (The Shawshank Redemption) إلى أذهان معظم مَنْ سمعوا بفرار الأسرى من سجن جلبوع، وهذا ما فعله محلل صحيفة «جيروزاليم بوست» لشؤون الإرهاب والقانون، يونا جيرمي بوب، الذي ذكر في مقدمة مقاله أنه عندما نجح بطل الفيلم آندي في ذلك الفيلم بحفر نفق من زنزانته باستخدام مطرقة صغيرة، بدا الأمر وكأنه مشهد هوليوودي لا يمكن تطبيق قوانين الواقع عليه، إلا أن الحقيقة يمكن أن تكون أغرب من الخيال أحيانًا.
ويرى يونا أن الأسرى استغلوا ثغرات في بناء السجن الذي يقوم على أعمدة طويلة مقامة على مساحة فارغة تسمح بوجود جيوب هوائية في مواقع مختلفة من السجن؛ الأمر الذي جعل عملية الحفر أسهل، وفقًا لما ذكره وزير الأمن العام عمر بارليف لقناة «إن 12» الإسرائيلية.
ويضيف يونا أن عملية فرار مشابهة كانت على وشك النجاح في السجن نفسه عام 2014، وصدر القرار بتنفيذ تعزيز شامل من الخرسانة لبناء السجن، إلا أن مسؤولي السجن لم يدركوا جدية السجناء في الهرب وقدرتهم على تحقيق ذلك، ولذلك تجاهلوا نقاط الضعف التي كشفت عنها محاولة عام 2014.
ونقلت صحيفة «يديعوت أحرنوت» عن قائد المنطقة الشمالية في مصلحة السجون، إريك يعقوب، قوله إن: «السجناء لم يحفروا نفقًا بالضبط، بل من الواضح أنهم استغلوا خللًا في هيكل الزنزانة واستخدموا الفجوة التي كانت موجودة أسفل أحد الأسرَّة في الزنزانة».
ومن الأمور التي أسهمت في إحباط عملية 2014 هي عمليات التفتيش الدقيقة التي كشفت عن أدوات السجناء وهواتفهم المحمولة، أما في هذه المحاولة فقد أشارت الدلائل إلى أن حراس السجن تعرَّضوا للترهيب من جانب السجناء في الأشهر الأخيرة، ولم يتمكنوا من إجراء التفتيش على النحو المطلوب.
"مزارعون" وليس الاستخبارات
وأشار يونا أيضًا إلى فشل استخبارات المعتقل؛ إذ لم تكتشف عملية الهروب بل أبلغ مزارعون عن الحادثة. وتوافقه الرأي صحيفة «يديعوت أحرنوت» التي رأت أن الاستجابة المتأخرة كانت السهم الأخير الذي أطلقه السجناء على النظام الأمني الإسرائيلي؛ إذ بدأت عملية الهروب في تمام الساعة الواحدة والنصف صباحًا، ولم تُكتشف إلا في تمام الساعة الثالثة صباحًا بعد وصول بلاغ من مزارع إسرائيلي بوجود تحرك مشبوه في مزرعته في تمام الساعة الثانية إلا عشر دقائق صباحًا.
وساعد وجود الهواتف المحمولة مع الاسرى في تواصلهم مع الخارج، وتلقيهم المساعدة، كما تُرجح التقارير. وينقل جوش براينر من صحيفة «هآرتس» عن أحد كبار المسؤولين في المعتقل قوله: «لقد استثمرت إدارة المعتقل ملايين الأموال لشراء أجهزة التشويش على الهواتف المحمولة، لكنهم لم يشغِّلوها في نهاية المطاف حفاظًا على "السلام" مع السجناء الذين قاموا باحتجاجات وإضرابات وأعمال شغب اعتراضًا على هذا القرار. وهذا سر مكشوف ومعروف للجميع في مصلحة السجون».
إلى أين فرَّ الاسرى؟
ذكرت صحيفة «يديعوت أحرنوت» أنه ربما يكون بعض السجناء قد فرُّوا إلى خارج البلاد، بينما توجه بعضهم الآخر إلى بيت شيعان شمال "إسرائيل"، الأمر الذي دعا الشرطة الإسرائيلية إلى تكثيف دورياتها حول المعابد اليهودية.
أما آنا أهرونهايم، المراسلة العسكرية لصحيفة «جيروزاليم بوست» فترى أن هناك ثلاثة أماكن يُتوقع أن يذهب إليها الفارُّون: الأردن، حيث العبور إلى هناك سهل نسبيًّا ولا يواجه السجناء خطر الإعادة إلى إسرائيل، أو جنين التي تُحكِم جماعات المقاومة المسلَّحة سيطرتها عليها؛ ما يجعل تدخل السلطة الفلسطينية أو الجيش الإسرائيلي مُكلفًا فيها، أو قطاع غزة مع أنه احتمال غير مرجَّح كثيرًا، ولكن يمكن أن يذهب إليه الفارُّون.
أما عمر بارليف، وزير الأمن العام، فيرجح وجود الفارِّين في الضفة الغربية، ولكن لا يستبعد وجودهم في "إسرائيل". وذكر في تصريح نقلته صحيفة «يديعوت أحرنوت» أن «هذا تقديري الشخصي وأنا لست نبيًّا، لذا سنأخذ كل الخيارات في الحسبان».
وتشارك جميع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في مطاردة الفارِّين، وأنشئت 200 نقطة تفتيش في جميع أنحاء البلاد، كما تُستخدَم الكلاب والطائرات وقدرات جهاز الأمن العام (الشاباك) التكنولوجية والاستخباراتية للعثور على السجناء الفارِّين.
هجمات بعد «الهروب الكبير»؟
تناولت صحيفة «يديعوت أحرونوت» مخاوف وزير الشرطة الإسرائيلية من أن يكون الفارُّون الفلسطينيون يخططون لهجمات ضد إسرائيل. وتشاركه آنا أهرونهايم المراسلة المخاوف نفسها؛ إذ يعتقد عديد من المسؤولين أن السجناء ربما ينفذون هجمات ضد إسرائيل، وربما ينفذ الأشخاص الذين ساعدوهم وأيَّدوهم هجمات أيضًا من أجل إلهاء قوات الأمن الإسرائيلي وعرقلة عمليات البحث عن السجناء الفارِّين.
وأثارت صحيفة «يديعوت أحرنوت» إلى مخاوف من أن يتعرَّض العاملون في السجون للاعتداء من السجناء، أو اندلاع أعمال عنف وشغب في السجون الإسرائيلية في أعقاب حادثة الهروب. أما الصحافي عاموس هرئيل، فيدُقُّ ناقوس الخطر على صفحات صحيفة «هآرتس»؛ إذ يرى أن عملية الهروب هذه قد تُشجِّع جماعات المقاومة المسلَّحة في الضفة وغزة على شنِّ هجمات على "إسرائيل". ويرى أن وزير الأمن العام، عمر بارليف، ورئيس الوزراء نفتالي بينيت، هما المسؤولان عن هذه العملية. ولكنه يلفت النظر أيضًا إلى الدمار الممنهج الذي زرعته حكومات الليكود المتعاقبة في صفوف مسؤولي مصلحة السجون وكبار ضباط الشرطة.
ويذكِّر عاموس بحادثة الفرار التي نفَّذها ستة أفراد من حركة الجهاد الإسلامي عام 1987 واستمرت حملة مطاردتهم خمسة أشهر نفذوا خلالها سلسلة من الهجمات المميتة على "إسرائيل" في قطاع غزة، ثم قُتِل خمسة منهم، بينما تمكن السادس من الهرب إلى مصر، وقُتل ضابط من الشاباك الإسرائيلي أثناء عمليات المطاردة. وينقل الصحافي ما ذكره زئيف شيف، وإيهود ياري، في كتابهما الشهير «الانتفاضة»، إذ قالا معلِّقَيْن على حادثة فرار الأسرى عام 1987: «كان هذا الفِرار الجريء هو نقطة البداية للأسطورة البطولية، وكانت قصص الفارِّين هي الشرارة التي أشعلت النار في قلوب أبناء شعبهم». ولم يمضِ شهران على مقتل أعضاء هذه الخلية إلا وكانت شرارة الانتفاضة الأولى قد اشتعلت في أرجاء فلسطين.
ويختم عاموس بالقول: ربما لا يعُيد التاريخ نفسه تمامًا، ولكن إن لم تتصرَّف إسرائيل بسرعة، فقد تحظى المنظمات الفلسطينية بالتفوق الذي كانت تبحث عنه طويلًا.
بتوقيت بيروت