نسرين إدريس قازان/مجلة بقية الله- العدد 314
اسم الأم: سلام عاشور.
محل الولادة وتاريخها: شقرا. 26/7/1989م.
رقم القيد: 170.
الوضع الاجتماعي: متأهّل وله ولدان.
مكان الاستشهاد وتاريخه: القصير 25/5/2013م.
وبعضُ الغيب يظهر على صفحات الوجه، ولمّا تُغسل التقاسيم بعدُ من عالم الظلام، وقد أفصح وجه محمّد عن شيء غريب تركَ أثراً في نفس كلّ من رآه في المستشفى وهو يستكشفُ بعينين صغيرتين الدنيا الجديدة التي قَدِم إليها.
* غريبٌ سكون محمّد
ولادته كانت في دولة البرازيل بعد أن قرّر والده ترك قريته شقرا إثْر اعتقاله من قبل العدوّ الإسرائيلي مدّة ثمانية أشهر في معتقل الخيام بتهمة التخابر مع المقاومة الإسلامية، ناهيك عن أنّ القرية كانت مركز استهداف دائم لمدفعيّتهم الحاقدة، وكان قرارُ السفر ملاذاً للوالدين ولابنهما "علي" والجنين الذي سيبصر النور قريباً.
غريباً كان سكون محمّد، فلا بكاء ولا ضجيج، فقط تأمّلٌ وملاحقة صامتة لكلّ ما يجري حوله، حتّى إنّ والده قال لزوجته ممازحاً ذات يوم: "مَن ينظر إلى عيني هذا الرضيع وشرودهما الدائم يظنُّ أن لديه هموم عائلة يتحيَّر في طعامها وشرابها". وقد أثارت سكينة الطفل قلق أمّه، فهو لا يبكي حتّى لطلب الطعام!
* عودة إلى ربوع شقرا
لم تدُم الإقامة في البرازيل طويلاً، فالأخ الأكبر "علي" بلغ سنّ المدرسة، والغربة أكلت من روح العائلة؛ ما أفقدها تحمّل الأمان في بلاد غريبة، فعادت لتسكن في قريتها غير عابئة إنْ كان المسكن غرفة صغيرة أو مستودعاً، المهمّ مكان لا تطاله القذائف الحاقدة.
في ربوع شقرا، وبين أزقّةٍ عاش فيها العديد من الشهداء، تربّى محمّد، الفتى الذي لو لم يتّخذ من المسجد زاوية له، لما كان أهل القرية تعرّفوا إليه، وحتّى أساتذته في المدرسة كانوا يشتكون لأهله ذلك الهدوء المفرط. وحده أخوه "علي" شاركه ثرثرات ليالٍ طويلة وهو يحدّثه عن الدين والالتزام والكشّاف والمقاومة؛ حديث له وقع خاصّ في قلبه.
أربعة صِبية رُزقت بهم الأمّ، كانوا يلعبون دوماً لعبة المقاومة و"إسرائيل"، التي استقوا أحداثها من الواقع، وقد اختزن قلبُ محمّد المشاهد القاسية والمروّعة جرّاء العدوان الإسرائيليّ الدائم على البلدة، ما ولّد في نفسه رغبة عارمة في مقارعته، وخصوصاً أنّه كان يدرك ويعي أنّ هذا البابَ المفتوح للجهاد إنّما هو حركة التمهيد لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.
* حديث بين قلب المُريد والمُراد
لم يكن محمّد شخصاً عاديّاً، كلّ من عرفه أدرك ذلك في قرارة نفسه، ربّما لأنّه ربط كامل وجوده بحركة التمهيد لصاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، وبدا ذلك واضحاً وجليّاً فيه، فهو منذ طفولته أنيق يهتمّ بتفاصيل دقيقة في ثيابه، يختار دوماً اللونين الأسود والأبيض، محافظاً على ترتيب يليق بنظرة إليه من صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف. ولم تكلّف هذه الأناقة محمّداً شيئاً، فهو الزاهد في كلّ شيء، نادراً ما ابتاع لنفسه ثياباً جديدة، بل حافظ على جودة ما لديه.
"نظرة من صاحب الزمان" حلمه المكنون الذي احتفظ به لنفسه، ولكنّ بعض التصرّفات وشَت بأنّ علاقته مع إمام عصره لم تكن عادية، فهو يحسبُ حسابه بطبقٍ أو كوب ماء، ممنّياً نفسه بمشاركة ولو من دون لقاء، وكان شروده وصمته جزءاً من حديث مضمور بين قلب مُريد لمراده.
* عليّ عوّضه فقْد الأخ
في مقتبل عمره، فَقَد محمّد مُرشدَه ومربّيه أخاه الأكبر "عليّاً"، الذي كان قد تولّى بناء شخصيّة محمد على أسس عقائدية متينة، واختزل له مقدّمات الجهاد، إذ كان يسمح له دوماً بحضور جلساته مع شباب القرية، وكان "علي" يلتقي بهم في الطابق العلويّ لمنزلهم، ما جعل محمّداً يقضي وقته على الدرج بين نزول وصعود وهو يؤمّن طلباتهم وضيافتهم. وقد استغربت أمّه هذه الهمّة التي كان يبرّرها دوماً بجملة "أنّ خدمة المجاهدين شرفٌ وتوفيق إلهيّ"، ولكنّه ذات يومٍ قال لها: "أمّي.. أخي لن يمكث طويلاً" فوقع كلامه في قلبها وهزّ أمومتها.
عند دفن أخيه عرف الجميع أن جزءاً من روح محمّد دُفنت معه، وقد ضاقت روحه من هذه الحياة، ولولا صديقه "علي حيدر" لما كان استطاع تجاوز الألم الذي حزّ قلبه، وقد صارت صداقتهما مضرباً للمثل في القرية وفي محاور الجهاد على حدّ سواء، فهما يتشاركان كلّ شيء؛ الدورات الثقافية والعسكرية؛ المرابطات والمناورات، حتّى في الجلسات الاجتماعية، إذا وصل أحدهما قبل الآخر، فلا أحد يجلس في المكان الشاغر المحاذي لأحدهما.
* هذه المعركة تشبه كربلاء
لم يكن محمّد اجتماعيّاً يخالط الناس، ولكن إن حصل ذلك فإنّه يثير الإعجاب بعمق فلسفته وحُسن حديثه الموسوم بابتسامة رقيقة دوماً.
المقاومة ليست خياراً بالنسبة إلى محمّد وأهله، بل هي نهج عبّدوه بقلوبهم. وبعد رحيل علي، بدأوا يُعدّون العدّة لرحيل آخر نذروه لصاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، ولهذا فإنّ حديث الشهادة كان ملازماً لحياتهم في كثير من التفاصيل، وإذا كان محمّد كغيره من المجاهدين يحافظ على سرّية عمله، فإنّ طريق الشهادة عنده كان واضحاً وضوح الشمس، حتّى إذا ما بدأت الحرب في سوريا، قال إنّ هذه المعركة تشبه معركة كربلاء، والمشاركة فيها مصداق لقول: "يا ليتنا كنّا معكم"..
هو الفوز العظيم الذي سعى إليه محمد، وشاركه الحلم توأم روحه "علي حيدر". آنذاك كان محمد ينتظر قدوم طفله الثاني إلى هذه الدنيا، وقد كثُر غيابه؛ إذ إنّ المعركة كانت في أوجها، وقد عبّر محمد لوالدته عن خوفه من تعلّق ابنه البكر به بعد أن صارت أيّامه معدودة.
* العاشق المنتظِر لصاحب الزمان
ذلك الحدسُ الذي كان يُنبئه دوماً بما هو قادم، ألقى بظلاله على قلب أمّه، وهي تعلم أنّ محمداً لا يُلقي الكلام جزافاً، وأسرّت لزوجها بما يختلجُ في نفسها، فوجدته يوافقها الرأي والشعور، فالشخصية الإيمانية والجهادية التي صقلها محمد عكست على وجهه أمارات الشهادة، فشعّ وجهه بنورٍ رآه كل من كان في المحور معه، في معركة القصير، كيف لا، وهو العاشق المنتظِر لصاحب الزمان المُلبي لسيد الشهداء في معركة الحقّ ضدّ الباطل.
لم يعد محمد من القصير إلّا وقد فاض عشقه دماً قانياً، ودُفن في مدفن القرية، في مكانٍ كان قد التقط فيه صورة للذكرى تجمعه بصديقه "علي حيدر". أثناء الدفن، وقف "علي حيدر" ينظر إلى بِضعة منه تُدفن، ولكن كما في الحياة كذلك في الموت، فما هي إلّا أيام قليلة والتحق "علي حيدر" بصديق عمره ليُدفن بالقرب منه...