ثمة ما لا يمكن أن يمر عبر العدسة. يطلب منك أن تكتبه، أن تصيغه بكثير من الحب والدهشة. في معركة جرود عرسال متّسع لهذا.
النصر هناك يجذبك لتسأل عمّن صنعه، من هم؟ سيدهشك الجواب: شباب التعبئة. والتعبئة هنا تعني أنهم ليسوا متفرغين في حزب الله، ولا يتقاضون رواتب. لديهم مهنهم التي يعتاشون منها، النجار والفران والحداد والطالب الجامعي والفلاح... طبعاً في بعض المحاور عملت فرقة النخبة في الحزب، ولكن في جرود عرسال عملت التعبئة.
ستضيع في وجوههم، ليس لأن الشمس قد صهرتها، أو الغبار قد غشّاها، ولا لأن معالمها اختفت بين الخوذة والدرع، بل لأنك ستشعر بأنهم متشابهون، أو بالأحرى لهم وجه واحد: وجه الانتصار.
سيدهشك خمسينيّ اصفرّ شارباه من «دخان اللف» يجادل عشرينياً في جدوى الإكثار من «قَرص رأسه بالماء» فيما الغبار يملأ المكان. العشريني لا يبالي بطبيعة الحال، بل يكمل تسريح شعره ليكون جاهزاً عند ملاقاة العدو. آخر يطلب من رفاقه تقييم انسدال البنطال على البوط العسكري، وثالث يمسح نظارته الشمسية (الباهظة الثمن بالمناسبة)، ورابع يندم لأنه لم يصطحب معه «ناموسية» للوقاية من البرغش وخامس، وسادس و...و...و.... . سيتسلل الى صدرك أن الشباب قد تاهوا بين المعركة والنزهة، أو بين خطوط التماس والمعسكر الصيفي. ولكن سرعان ما يشتت هذا الانطباع صوت القذائف من المرابض المجاورة...
يتجمّعون في حلقة اللطم استعداداً للانطلاق. الهدف هو ضهر الهوة. وما بين شادّ لدرع صديقه ومتأكد من وجود قلادته وعاقد لعصبة خضراء، سيلفتك أحدهم وهو يمسك شاباً من الإعلام الحربي على عجل، يحثّه على تسجيل وصيّته. كثر هم من أصرّوا على ذلك، لكن هذا كان أكثرهم إصراراً. يجلس تحت الشجرة ويتأكد من أن البندقية في الخلفية مفتوحة «الأمّان» «حتى ما نتبهدل مع العالم». يسجّل الوصيّة ويهرع إلى الآلية ليلتحق بالقافلة، وتبدأ الأخبار بالتوارد من ضهر الهوة... بدأ الهجوم.
سقط الشهيد الأول، الثاني، الثالث. صاروا عشرة شهداء. يأتي النداء عبر اللاسلكي: «سيطرنا على الوضع كسرناهن...». تفهم أن ضهر الهوة كسر ضهر النصرة. الآن أنت تنتظر مشاهد الإعلام الحربي لتعرف ماذا جرى.
لست وحدك من ينتظر. صديقك، عدوّك، أم وأب، زوجة وأخت، مجتمع بكامله ينتظر اللقطة. بلغ الصراع أشدّه بين عقلك وعاطفتك. هل ننتظر لنرى كيف سقطوا أم ننتظر لنرى لحظة النصر؟
يدهشك أنهم ما تركوا الساتر. سقط رفاقهم. تناثروا كتناثر حبيبات اللؤلؤ. لكنهم ثبتوا، تقدموا، الطلقة تضرب الطلقة، القذيفة تنفجر أمام وجوههم المصمِّمة على النصر القادم من الخلف يصرخ محرّضاً مَن هم أمامَه على الثبات. تكاد تسمع الساتر يتوسّل إليهم أن تراجعوا، فما عاد في ترابه متّسع لمزيد من الطلقات المنهمرة من العدو. يُخرسه جريح أسند مكان إصابته إليه وسدّد بندقيته باتجاه عدو، ورمى.
قائد سريتهم المسيطر على الوضع ميدانياً ستفلت الأمور من يده لبرهة. ليس لأن عدوّه غلبه، بل لأن مجموعة قادمة من الخلف تريد الالتحام: «ارجعوا وتموضعوا، عم قلكن ماشي الحال»، يقول لهم. تصرخ بك الذاكرة هنا: ألم تقرأ عن هذا في ما سلف؟ ألم تشاهده في بعض الأفلام؟ بسرعة البرق تمثل أمامك بعض الملاحم الأسطورية. ولكن مهلاً، عليك أن تحترم مَن هم أمامك. هذا ليس فيلماً من إخراج ميل غيبسون ولا وولفغانغ بيترسون. هذا حقيقي، صانعوه من لحم ودم. ابحث عن نسبتهم. هم نسبوا أنفسهم الى كربلاء. نعم، هذه فقرة من ملحمة كربلاء الحسين.
قبل لململة الذاكرة والأوراق والمشاهد ومتعلقات العمل الصحافي، سيقول لك الفضول اذهب اليهم. يتزامن وصولك مع قهقهة عالية. جريح يجلس قرب رفيقه الممازح: «قلتلي حالق قبل ما تطلع؟». كان الجريح قد أصيب في وجهه فاختفت ملامح حلقة لحيته المميزة، يردّ الصاع صاعين بالتزريك له ولنادي النجمة الرياضي.
بدأت أولى ساعات الليل. كلهم يتحدث عمّا حصل معه هناك، وبلذّة من خاضها للمرة الأولى تخترق الكلمات أذنيك. في رأسك الآن حالة ازدحام لا تجد لتوصيفها سبيلاً. هؤلاء سيخوضون جولة ثانية صباحاً، وربما ستتبعها جولات.
صباحاً يأتي قائد سريتهم يشدّ من عزيمتهم. يأمر بعضهم بأن يستريح، فيجذبه أحدهم من درعه ليقول له: «لا نريد... ما زلنا في أعلى درجات الاستعداد والهمة». تجتمع مجدداً حلقات اللطم. يمثل أمامك طيف الشاب الذي سجّل وصيته قبل الهجوم على ضهر الهوة. تسأل عنه وأنت تعطيهم وصفاً له، فيجيبونك: لقد استشهد... كان هذا الشهيد حسين علي إسماعيل. وكأن هذا ما كان ينقص لتسمع الصخور العرسالية الهامسة في أذن الأودية تقول: «بيّضوها شباب التعبئة».
عباس فنيش/جريدة الأخبار