صورة أثارت مشاعري.. جَعَلتني أنفعل وانهمرت الدموع حارةً من عيني فأسرعتُ أخبّئها راكضاً إلى خارجِ الغرفة.. وكيف لا أبكي وأنا أرى صورة منقذي الذي لطالما بحثت عنه طويلاً يُزف شهيداً؟!
وعادت بي الذاكرة إلى الوراء سنة وتسعة أشهر :
حسبما أتذكر..كان ذلك اليوم نهار الأربعاء.. وكانت الساعة تناهز الثالثة .
كنت مع مجموعتي نهاجم أحد مواقع داعش.. أذكر أنه كان هجوماً قوياً وكان الأعداء كثر. كان الهجوم عنيفاً لكننا لم نشعر بالخوف أبداً، فمن كنا نقاتلهم كانوا أقل منا جرأةً رغم كثرةَ عددِهِم.. ولقد راحوا يفرّون من بين أيدينا فرارَ الخِرافِ إذا شدَّ عليها الذئب ..
وفجأة، شعرتُ بألمٍ في قدمي.. وأحسستُ وكأن النيران تشتعل في كتفي.. نظرتُ إليه فرأيت الدماء تسيل منه مدرارا، ولم أعد أقوى على تحريك قدمي.. لقد أُصبت ..
حاولتُ أن أسير لكنني لم أستطع، وأخذَ الألم يشتدُّ شيئاً فشيئا. شعرت بجسدي يضعُفُ رويداً رويدا.. حاولت أن أتراجعَ إلى خلفِ خطوطِ القتالِ لكنني عجزتُ عن ذلك.. فاستَلقيتُ على الأرض وقد خارت قوايَ وبدأتُ أفقدُ الوعيَ شيئاً فشيئاً .
-"أنا جهاد علي "
لحظاتٌ مّرت علي لم أعد فيها أسمعُ طلقاتِ الرصاص.. عمّ الهدوءُ الغريبُ ذلك المكان ..
"لقد حانت نهايتي، لقد استُشهدت .."
هكذا رحتُ أفكّر بيني وبين نفسي.. لكنني لم أَخَف بل على العكس فرحتُ كثيراً ورحتُ أنتظرُ قدومَ الإمام الحسين (ع).
أحسستُ بوجودِ أحدٍ إلى جانبي.. لم أستطع أن أعرفَ من يكون، لكنني سمعتُ صوتَه الهادئ يتحدثُ معي: -"لا تقلق ..سوف أساعدك" - "من أنت؟"
وفعلاً، ساعدني على الوقوف لكنّه سرعان ما استدار وحملني على ظهرهِ وعادَ بي إلى خلفِ خطوطِ الهجوم، سار الهوينا متثاقلاً، يحتمي تارةً من الرصاص ويسيرُ أخرى مسرعاً قدرَ استطاعته حتى استطاع إخراجي من ذلك المكان ..
-"جهاد علي ..اعذرني فأنا لا أعرفُك !"
- "لا عليك يا أخي.. فأنا من مجموعةِ الإسناد الناري.. نحن لم نتعرف على بعضنا سابقاً، لا تَخَف جُرحُكَ بسيط"
-"أنا لستُ خائفاً من الموت بل أنا بانتظار الشهادة، لكنني لا أريدُ أن يبقى جثماني هنا ويأسره هؤلاءِ القوم "
-"لن يحدث هذا يا أخي، سأساعدك "
- " لكنني لا أقوى على السير !"
- "لا بأس ..سوف أجدُ طريقةً لكن عليك أن تستجمعَ شجاعتَك وتحاولَ الوقوف"
قصةٌ حقيقية تروي إحدى بطولات الشهيد القائد ياسر علي ضعون (جهاد علي).
ما زلتُ إلى اليوم أعتقدُ بأنه لولا مساعدتهِ لكنتُ استشهدت في ذلك المكان.. لا يمكن أن أنسى ما قام به "جهاد علي" وإنقاذه لحياتي ومخاطرته بنفسه من أجلي مع أنه لايعرفني .
ولم أرَ جهاد علي أبداً بعد ذلك .
وها أنا اليوم ..بعدَ سنةٍ وتسعة أشهر أقفُ أمامَ صورته حزيناً مطأطىءَ الرأس.. وكيف لا أخجلُ من نفسي وأنا أقفُ أمام صورة منقذي الذي تحوّل اليوم إلى عريسٍ جديدٍ من عرسان الشهادة؟! ها هو مُنقذي البطل قد صار شهيدا، ها هو"جهاد علي" يُزفّ إلى عروسه في الجنة وأنا ما زلت أبحث عن نفسي وعن منقذي !!