عباس فنيش
لم تكن تلك المرة الأولى، ولم تكن الأخيرة. لكنها كانت الأطول. جاءت في مناسبة حزينة:
استشهاد جهاد مغنية.
أربعة أيام برفقة الـ»110»، احد أسمائه «السرية». كنت أفضل مناداته: «سيد مصطفى».
يقابلك ككل من يعرفهم. ابتسامة وكفّين على الوجنتين ثم قبلة واحتضان، مع عبارات صبغتها لهجته الساحلية كأهالي منطقة الغبيري: يا تقبرني يا تقبرني... حبيبي.
ارتدى الاسود تلك الأيام، اختزلت اناقته رائحة عطره الطاغية في الأرجاء. يدنيك منه، يمسح بكفه على كفك أو كتفك. أنت الآن تجلس خلف الساتر الموضوع بينه وبين العدسات، وبقرب من يجلس في حضن الموت منذ كان في السادسة من عمره. حينذاك، مرض فنعاه الطبيب لوالدته. دقائق وعاد إلى الحياة بعدها.
«انا عتبان عليك»، يقول: «شفتك عم تروح على تغطيات بلا درع وطاسة». لا يعطيك فرصة: «انا مش ناقصني. يا (فلان) بتجبلو درع مني».
يسألك عن تفصيل التفصيل، والتفصيل هذا كان معشوقه. ورغم ان الشياطين تسكن فيه، إلا انه كان يجيد تسكينها على طريقته، بنظرة أحياناً، يحاول إخفاءها بنظارة تموّه زرقة عينيه، تتنقل في أرجاء القاعة، مع رفعة حاجب، تدقق في كل شي، حتى في دلة القهوة. تخونه الخيانة المشروعة، فتقع على قديم من أيام «عين الدلبة «، مهوى فؤاده. يناديه رجل محدودب الظهر تخطى الستين. يسأله عن تاريخ وحاضر ومستقبل. دقائق ويعود اليك: «هيدا كان من اول من حملوا بارودة». أسأله: «بعدو قلبك بعين الدلبة؟». يجيب: «عين الدلبة. من هونيك بلشنا، من هونيك ومن برج البراجنة رحنا على خلدة». تتردد في سؤاله عن المارينز والمتعددة الجنسيات. تتقدم «خلدة» على ما سواها. لعل الربط بينها وبين إصابته هو السر. حتى في هذه كان يجرّك دون قصد إلى ما يتقن: توليف السمع والبصر كما يريد هو، تماماً كما فعل في «الإعلام الحربي». يترجم عقلك انه اصيب في «خلدة»، رغم ذلك يقف من اول العزاء الى آخره للقيام بالواجب. ليست القصة مكابرة، الرجل هو هكذا، عزيمة تمشي، صاخبة في أكثر الأوقات، لا عجب انه أحب قيادة الدراجات النارية العالية السرعة.
بعدو قلبك بعين الدلبة؟». يجيب: «عين الدلبة. من هونيك بلشنا، من هونيك ومن برج البراجنة»
عزيمته تبحث عن شبيهاتها. فـ»أبو عيسى الإقليم» (الذي استشهد في الغارة نفسها التي ادت إلى استشهاد جهاد مغنية)، يقول لي، «أبو عيسى هوي الإقليم، بس تحكي إقليم، وطبيعة الإقليم، يعني عم تحكي عن رجال. كل عمليات الجنوب تقريبا كان معي، وبسوريا كمان من الايام الاولى». فرصة أخرى لأذهب بالسؤال معه: «عسيرة الجنوب، مش انت صاحب عبارة حرب الأدمغة؟»، ابتسامته لا تأتي بمعرض الإعتداد. تميل إلى تحضير جواب يستحضر فيه حادثة، جرياً على عادته. «هيدي عبارة قصتها طويلة». إلا ان ثمة ما يجذبه هنا، مفصل يعود اليه كلما تحدث عن النوع في العمل، أنصارية 97: «ليك يا حبيبي، بدك حرب أدمغة، رجاع لأنصارية. الله يحفظو سماحة السيد كشف شي، بس لليوم ما انقالت القصة كلها، هيدي اشتغلناها أنا والحاج عماد الله يرحمو». يسكت. يطبق شفتيه. لا نفع من محاولة طلب فتحهما، تتذكر ما يُروى عن انه قام بتقطيبهما عند اعتقاله في الكويت حتى لا يدلي بمعلومات.
يضطرك إلى الذهاب اكثر. لا تنتهي لديه المعركة بين الخير والشر. يستحضرها في كل شيء، في «فيلم العراب» وبعض شخصياته. لم تسعفني الجرأة في سؤاله عن خلاصته منه. تهمّ ان تسأله عن المحكمة الدولية. تمزق ذلك جولة جديدة من العزاء تقدمتها شخصية كبيرة في 14 آذار. يبتسم السيد بوجهه، لا يقبله. عرفَته تلك الشخصية ونادته: «تعازينا الكم يا سيد». ادركت انه ما من داع لإضاعة تلك الدقائق. يلهيك وفد اجنبي قادم، تحاول ان تسترق السمع لإنكليزية سليمة، فالسيد درسها في الجامعة الاميركية وتكلمها بطلاقة.
يجتاحك صراع بين «ذو الفقاريته» و»بدرالدينيته». لا صحة لما يقال عن انهما حال واحد. في «ذو الفقاريته»، يكفي ان تشاهد دخوله إلى المحفل، كل الاصوات تخبو.
تتوقف عند فرادته في دمج الأمن والعسكر. عشقه للثانية بما فيها استعراض القوة، أداء القسم، قرع الطبول، تجهيز الاستشهاديين، الصور العملاقة، المارش العسكري، البزة الكاملة، لكن كله لم يأت على حساب الاولى والإبداع فيها حتى التخصص.
في «بدرالدينيته»، «وين فلان؟»، «كيف فلان؟». وقت الغدء «الكل بدو ياكل»، المجاهدون ابتداء. هنا تصدق ما قيل انه قام بجولة لبعض القيادات في محاور الجنوب، وعند الإفطار دعاهم إلى مأدبة من علب الـ»تونة» والبطاطا المسلوقة. الحرس والمجاهدون أولاً. عادة رافقت «قلقاس»، لقبه في سجن الكويت، عندما سرق قلوب الجميع وفي مقدمتهم آمر سجنه.
ومن ثم في مجلس العزاء، دموعه تغلبه، يبكي فاتحا عينيه، ويده على خده، وحيداً في زاوية، انه «السيد مصطفى». بعد دقائق سيخطب شاكراً من واساه في المصاب، يستحضر قصيدة للشاعر المصري الشهيد هاشم الرفاعي بعنوان: (ام الشهيد تهدهد لطفلها):
نم يا صغيري إن المهد يحرسه الرجاء / من مقلة سهرت لآلام تثور مع المساء
أشدو بأغنيتي الحزينة ويكاد يغلبني البكاء / فأمد كفي للسماء لأستحث خطى السماء
مجدداً تغلبه «ذو الفقاريته» ، فيجيب بقصيدة الإباء للشاعر الليبي عمرو خليفة النامي:
في موكب من دعاة الحق نتبعهم / على طريق الهدى إنا وجدناه
على حفافيه يا أماه مرقدنا / ومن جماجمنا ترسى زواياه
أماه لا تجزعي فالحافظ الله / إنا سلكنا طريقا قد خبرناه
يوم تشييع «السيد مصطفى»، سألت رفاق دربه الذين حضروا: هل يمكن وصفه بكلمة؟
كلهم أجابوا: «السيد ذو الفقار، وبكلمة؟»، كانت الإجابة بكاء عاليا من زاوية القاعة لـ»قديم» عرّفني عليه من أيام عين الدلبة.