في مثل هذا اليوم قبل سنة، اغتال العدو ثلة من مجاهدي المقاومة الإسلامية، كانوا في مهمة تفقد على تخوم الجولان السوري المحتل، حيث المواجهة مع المجموعات المسلحة، وحيث الاستعداد لمواجهة قوات الاحتلال.
وقد اختارت جريدة الأخبار اللبنانية (18-1-2016) توجيه تحية الى جهاد عماد مغنية ورفاقه، وفيها بعض من حكاية اقتفاء الأثر، في رحلة نهايتها الحتمية زوال الاحتلال.
المقال الأول: اقتفاء الأثر بقلم الصحافي ابراهيم الأمين
لطالما عاشت مجتمعات على طباع مشتركة، أو على مهن متوارثة، أو على زعامات متوالدة. لكن، لم يحصل أن بنت ثورة نفسها على روح تتناقل بالدم جيلاً بعد جيل. ولم يكن بالإمكان رصد بيئة أو مجتمع صغير يقبل التحدي نفسه، موتاً بعد موت، والموت هنا قتل لا غير ذلك.
لم يكن أحد ليهتم أصلاً إن كان لعماد مغنية ذرية، أو ما كان أحد ليهتم لو ظل الصمت الذي أطبق على العائلة الصغيرة لعقود، وامتد الى جيل آخر. ولم يكن أحد ليغضب لو أن الأبناء نالوا ما تخلى عنه الأب بسبب موقف وقضية. ولم يكن ليظهر على وجه الارض من له حق سؤال هؤلاء عن بقية حياتهم.
ولأن المسألة لم تكن، ولم تعد، ترتبط بوراثة مجد أو استثمار عز الآباء، كان لا بد لسر هذه الطينة من البشر أن يستمر. وكان منطقياً أن يدرك العامة أن جينات ودماءً لا تعيش خارج سياقها الروحي والعقلي، وأن الثقافة اليومية ليست فصلاً دراسياً يمكن تجاهله بعد حين، بل هي هوية متكاملة، تجعل الانتماء الى هذه المدرسة أمراً طبيعياً. لكنه أمر طوعي، وتلقائي، وأكثر من ذلك، إنه انتماء المدرك بأنه يمثل البقية التي لا مجال لمحو ذكرها.
في حالة جهاد، ابن عماد مغنية، الامر يتعلق بتحديات بديهية. يتعلق بالقدرة على التكيف مع وقائع ما بعد الظهور الى الضوء، حيث تسيطر المغريات على كل شيء. النجومية، الألفة والمحبة والمحاباة، وفيها أيضاً التمييز لأجل الراحل، وفيها أكثر من كل ذلك، الاستعداد لمنحه كل ما حُرم منه والده.
عاش جهاد فرصة التمتع بما يمكن اعتباره امتيازات «ابن الشهيد الكبير»، لكنه لم يتأخر حتى كتب وصيته، وأودعها في جيب أخيه، لا في درج غرفته. ولم يتأخر في انتزاع قرار الموافقة على العمل في مواجهة العدو ذاته الذي قاتله والده ربع قرن ولم يستسلم. وهو لم يكن ولداً يجهل موجبات ما يفعل. بل ربما كان مدركاً، أكثر من المتوقع، لحتمية المواجهة المباشرة، ولذلك لم يتأخر في تنفيذ عمليات عسكرية في الجولان المحتل. وعندها كان يعي، تماماً، أن دمه صار في كفه، وأن الاستشهاد مسألة وقت.
في حالة جهاد، ثمة خيط لا يقطعه موت أو رصاص. في حالته، اقتفاء للأثر جيلاً بعد جيل. وفي حالة جهاد، سرّ نجاحات مقاومة ستبقى الأكثر إيلاماً لعدو بات عدة أعداء!
المقال الثاني: عهد ووصال بقلم الشيخ شفيق جرادي
يحكون في بلادنا القريبة،
عن بطل عاهد أخاه الشهيد على أن لا يغمض له جفن حتى يحقق وعد ربه ويُلحق بعدو
الإنسان الأضرار والمهانة قدر وسعه الإنساني.
وما
تعبير قدر الوسع الإنساني إلا تعريف كلمة «الجهاد» هذا، وقد حكوا في ما حكوا أن
البطل ما غادر الحياة الدنيا إلا وقد أشعل في الخافقين جهاداً لا هوادة فيه ضد
قتلة الأنبياء والكرامة. وأنبت نباتاً حسناً اسمه «جهاد».
وما جهاد إلا رمز لكفاح شبابي مشغوف بحب الحياة، وواع لمعنى الموت الذي لا بد منه. إنه الوعي القائل: «إن الحياة في موتكم قاهرين والموت في حياتكم مقهورين» وهو الذي زرع في ضميره آفاقاً من فهم اللذة والسعادة مستلة من نداء لأبي الأحرار الإمام الحسين (ع) عندما قال: «إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما».
جهاد هذا، وقف يوم اكتست الأرض وشاح حدادها الأحمر مع رحيل الشهيد البطل عماد مغنية، لينظر ببريق عينيه نحو البعيد، فاعتلى الكرامة في وداع مشهود ليخبر العالم، «نحن اخترنا في ملاقاة مصارعنا، الالتحاق بالشهادة وبلوغ الفتح، نحن أبناء من لم يعرف الموت لهم طريقاً، لأنهم اعتلوا صهوة الموت في سبيل الله، فبلغوا الحياة والفرح والبشرى، الحياة التي لا يشعر بها إلا من انقشع السحاب عن بصيرته، ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر.
نحن أبناء من مضى على طريق الدفاع عن حدود وطن ما رأيناه إلا جميلاً... نقف هنا مرفوعي الرأس، نفخر بأننا ثمرة اعمار فتحت عيناً على الجهاد، بالاختيار والإخلاص، وأغمضت عيناً على الشهادة بالإرادة والعشق...
نأتي هنا لنقول لعدونا الصهيوني إنك إن غيّبت الجسد، صار أجساداً على امتداد البقاع والجنوب اللبناني، وإنك إن أرقت الدم، صار أنهاراً على طريق فلسطين والقدس». ويختم جهاد الخطاب ليفتح العهد قائلاً: «اليوم، يقف فرع الشجرة أمام أصله الثابت ليقول: وعداً وعهداً، اننا ماضون في طريقكم، طريق الحب والجهاد، وطريق التصميم على النصر». ويودع جهاد أحباب عماد ليمضي، ثم ليصل ملاقياً الأحباب عند تخوم فلسطين في الجولان، ليوسع دائرة الدفاع وخلجات الحب الجهادي وعناوين شهادة الانتصار.
ومع هذه الكلمات، لا بد من التوقف قليلاً بقلب شاهد وعقل متأمل، إذ في الخطاب مفاتيح كلمات لا يمكن أن نقرأ معاني دلالاتها إلا بميادين البذل والجهاد والشهادة، أو بمعنى آخر بوصال موت الشهادة مع حياة النصر.
إن قراءتنا لهذا الخطاب ما لم تقترن بمعرفتنا المناخ الجهادي المحيط بالمناسبة، وبملقيه، وبمن يعبر عنهم هذا الخطاب، فلن نستطيع إدراك الوجدان المعرفي الذي يملأ قوالب الألفاظ والمفاهيم والأفكار فيه.
ومن ذلك:
أ ــ سياقات الخطاب: فعندما يعبّر الشهيد جهاد مغنية في مطلع خطابه بالقول: «نحن اخترنا في ملاقاة مصارعنا، الالتحاق بالشهادة وبلوغ الفتح» فهو يحيي الذاكرة المفتوحة على طبيعة التاريخ الجهادي لكربلاء الإمام الحسين (ع) حينما استخدم (ع) عبارة ما أشوقني ليوم أنا «ملاقيه». إن عبارة «ملاقاة» «مصارعنا» هنا هي من تلك الملاقة الحسينية لمصارع كربلاء، والتي تستكمل نفسها بعبارة الحسين (ع) «من لم يلتحق بنا لم يبلغ الفتح» الذي يصير في مسارات جهاد عماد مغنية «بنا» يعني الشهادة، والفتح هو النصر بعينه ليرسم بذلك معنى الشهادة لا كهدف جماعي يرتجى بل كسبيل أوحد لتحقيق النصر والفتح الإلهي لعالم الكرامة والعزة الإنسانية في عيش الحياة.
فالشهادة في وعي الذاكرة المفتوحة على الإمام الحسين (ع) غاية للفرد وطريق للأمة لتحقيق ما لا يحقق إلا ببذل أغلى ما نملك.
ب ــ طريقة التعريف بالذات والهوية: «نحن أبناء من لم يعرف الموت لهم طريقاً، لأنهم اعتلوا صهوة القتل في سبيل الله».
وهو المضمون
الفلسفي ــ العقائدي الأبعد في طريقة التعاطي مع الموت. لأن الموت إما أن نلقاه
بغفلة وهو سبيل من لا يعرف معنى الحياة، وإما أن نستغرق في تحليله وبيان ماهيته،
وهو سبيل من لا يحمل في قلبه معنى الشغف والروح، وإما أن نعي ونتفاعل مع طريقة
مواجهته والتماهي مع العيش قبله وفيه وبعده. وهو طريق أهل القلوب من الأحرار.
عندما نمسك بأزمة الموت «اعتلوا صهوة القتل في سبيل الله» فسيلبس الموت لنا قيادة،
وسيتحول إلى شهادة وحياة... عندها يكون الخلود الذي لا يدركه الموت أبداً. ولو في
ضمير أصحاب القلوب والأرواح الحيّة.
ج ــ
الإحساس بالأمل وبالفرح الدائم. وهي معاني مشاعر الحياة التي عبّرت عنها الآية
القرآنية «فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم
إلا خوف عليهم ولا هم يحزنون». هذه هي الحياة التي أرادها جهاد عماد مغنية حينما
قال: «فبلغوا الحياة والفرح والبشرى، الحياة التي لا يشعر بها إلا من انقشع السحاب
عن بصيرته».
وما يرهقني حباً في شهادة جهاد، هو هذا التوق إلى الوعي الذي يبدد سحاب العمى عن بصيرة أهل الشهادة والحياة.
د ــ الغاية هي
في معنى «فرأى ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر».
ما
المقصود هنا: هل المقصود هو الجنة؟ وما هي الجنة، هل هي أنهر من شراب كالذي نشرب
أم حور عين، كقاصرات الطرق في الحياة الدنيا؟ ما هي الجنة؟
إنها عنده
خلاف كل ذلك، لأنها لا تُقاس بما يرتجي... لذا فالدفاع عن الحياض قد يتجاوز
الجغرافيا «جنوب وبقاع» لتصير مساحة حرب الحق والباطل «تخوم فلسطين عند الجولان».
هـ ــ تكامل
الوعي مع الحب والإرادة عندما يعود جهاد عماد مغنية ليقول: «نفخر بأننا ثمرة اعمار
فتحت عيناً على الجهاد وبالاختيار والإخلاص، وأغمضت عيناً على الشهادة بالإرادة
والعشق». ومن المعلوم صلة القربى بين الإرادة والاختيار، وبين الإخلاص والعشق. كما
من المعلوم أن شهادة الحق وفي الحق لا تكون إلا فيها.
لن أترك
الحديث عن جهاد عماد مغنية قبل أن أشير، لكل من قد يظن أن في الكلام إسقاطاً
لدلالات قد لا تنسجم مع ابن السبعة عشر ربيعاً. لكنني هنا مضطر لأقول إني قبل
شهادة الحاج عماد لم أكن أعرف ابنه جهاد. وحينما جلست معه بغية أن أخفف عنه مثاقيل
ما قد يُحمِّل نفسه من مسؤوليات، وجدتني أمام ربيع غني بالإرادة والوعي والهدفية.
أثقلني بهم الرسالية التي يحمل. وشعرت معه وعند أطراف حديثنا معاً، كم هي فقيرة
تلك الكلمات التي أحمل إذا ما لاقت روح جهاد التي نفثها عماد في ابنه، وحضر إلى
ذهني قول الأمير (ع) مع ابنه الإمام الحسن (ع): «وجدتك بعضي بل وجدتك كلي».
الحب والوعد والعهد هنا هي عين ذاك الحب والوعد والعهد الذي تكامل ليشكل اسماً مرادفاً لثلاثي انتصار رمزه جهاد عماد مغنية.
بتوقيت بيروت