لم يضيّع الأسير المحرّر من
السجون الاسرائيلية الشهيد سمير القنطار وقته. بعد أعوام من تحريره، سرد حكايته كاملة
للزميل حسّان الزين لتخرج في العام 2011، في كتاب حمل عنوان «قصتي»، نقتطف
منها تفاصيل اليوم الأخير الذي أمضاه في السجون الاسرائيلية:
■ ■ ■
وضعتُ سماعة الهاتف في أذني وطلبت رقم المنسّق:
-«ماذا تقصد بالفرج القريب؟».
استمهلني بعض الوقت ليتسنى له سؤال السيّد حسن نصر الله.
انتظرت. تخيلت نفسي فتى في الثياب
الجديدة التي اشتريتها خصيصاً لتنفيذ العملية قبل تسع وعشرين سنة. كأن اللحظة
الراهنة هي مرآة تلك اللحظة التي لم أنظر فيها إلى مرآة.
انتظرت. انتظرت
ساعتين ضوءاً صغيراً في هاتف صامت. لمع الضوء الصغير مثل إشارة بعيدة لانطلاق أمرٍ
ما.
-«وافقوا عليك»، جاءني صوت المنسّق. موجةٌ باردة ضربت وجهي. قلبي عصفور يرفرف. يداي تعبتان كما لو أنهما تذكرتا كل الأغلال التي مرت عليهما. رفعتهما إلى الأعلى. حمدت الله وشكرته.
■ ■ ■
عند الواحدة والنصف فجر الأربعاء 16 تموز 2008، فتحوا باب الغرفة وطلبوا خروجنا واحداً واحداً. أشعلنا الضوء. أثناء خروجنا أنا وحسين سليمان، أكد كل منا على الآخر أننا لن نرتدي تلك الثياب.
مدّ الضابط الثياب لنرتديها.
قلتُ جازماً:
-«لن يلبسها أحد منا». ونظرت إليه بثبات
لعله يفهم، وهو درزي، أننا لن نقبل أن نفعل ما يهيننا.
لم يجب. قلت له:
-«اذهب وليأتِ الضابط الأرفع منك».
جاء الضابط الأعلى رتبة، كرر طلبه وكررتُ رفضنا ارتداء السراويل وموافقتنا على القمصان القطنية العلوية...
غادر الضابط وجاء أرفع منه. ثم غادر وجاء الأرفع منه، حتى جاء مسؤول المنطقة، وبعده مدير نائب السجون. قال لي:
-«أمضيت ثلاثين سنة في السجن ولا تريد أن ترتدي هذا البنطلون حتى تصل إلى رأس الناقورة؟ مرّرها هذه المرة».
-«أمضيتُ ثلاثين سنة في السجن محافظاً على كرامتي ولن أسمح لأحد منكم بإهانتي، ولن أسمح لكم في آخر نصف ساعة لي في السجن بإهانتي».
■ ■ ■
تركت المياه تنساب عليّ كما لو أني تحت شلال، أو كما أني أثأر من الحمام الأول في معتقلي الأول، 1391، الصرفند. اغتسلت استعدادًا للصلاة.
ارتديتُ بذلتي العسكرية. لجهة القلب علم لبنان، وللجهة اليمنى اسمي. فضفاضة قليلاً.
لا بأس، قلت. تجعلني حراً في حركتي. استعدتُ حلمي القديم بارتداء ثياب عسكرية.
هذه البدلة سلاحي الآن، وقد كان سجني سلاحي.
حاربتُ به وبقيتُ صامداً به.
■ ■ ■
حان موعد أسرتي وأُسر رفاقي. مشينا إلى القاعة حيث ينتظرون. عانقتُ أمي واخوتي وأبناءهم. لا أعرف كيف تتطاير الكلمات، من اين تستأنف. آلمني أن أبي وشقيقتي سناء ليسا من الحاضرين. لن أراهما. الحزن عميق يختبئ خلف وجهي.
في السجن عرفتُ بغيابهما، حزنتُ
لفقدهما، لكني الآن لمستُ ذلك، كما لو أنهما رحلا الآن.
نظرتُ في وجوه
أطفال اخوتي. لمسوا وجهي كأنهم يلصقون عليه ضحكة أو يشغّلون لعبة لتنطق أو تضحك.
■ ■ ■
خطفني برنامج الاحتفال من أسرتي.
مشيتُ من بينهم على وعد أن يبدأ الكلام في ما بعد.
فجأةً، ونحنُ
نصعد إلى منصة الاحتفال الشعبي بحريّتنا، سمعتُ عبر المايكروفونات الضخمة الموزعة
في المكان، صوتاً ينادي عبر جهاز اللاسلكي:
-«مئة وواحد، مئة وواحد، عمليّات، عمليّات، من ينادي؟».
فكّرت أن خطأً تقنياً أوصل صوت أحد شباب الأمن إلى تلك المايكروفونات.
ابتسم وفيق صفا بجانبي بعدما أوقفني ورفاقي الأسرى في طابور، وطُلب إليّ أن أتقدم وأكسر القضبان المنصوبة فوق المنصة كأنها قضبان سجن وأنا ورفاقي نخرج من بينها.
ثمّ سمعت:
-«أنا سمير القنطار رجعت ومعي الشباب».
تبعت ذلك موسيقى. وعلت هتافات الحشود. تقدمتُ وكسرت القضبان ومشينا على الخشبة. أمامنا الآلاف محتشدين. رفعنا أيدينا لملاقاة أكفّهم المهللة.
جلسنا على كنبات في مواجهة المحتشدين.
سمعتُ عريف الاحتفال الواقف خلفي يقول:
-«وأبى إلا أن
يشارككم هذه اللحظة... سماحة السيد حسن نصر الله».
وثارت الجماهير. نظرتُ خلفي فإذا به السيد يتجه نحونا. يا للمفاجأة. لم أصدق. لم يقل لي أنه سيحضر شخصياً لاستقبالنا. فالظروف الأمنية تمنعه من الخروج علناً منذ الاحتفال بالنصر بعد حرب تموز 2006.
لا أدري كيف مشيتُ نحوه. قال مبتسماً:
-«الحمد لله على سلامتك».
لم أستطع الكلام. احتضنته طويلاً.
وقفتُ بجانبه. أحد حراسه المستنفرين
أزاحني ليقف في النقطة التي كنتُ فيها.
بحث السيد عني.
وجدني بعيداً منه. المايكروفون في يده، قال:
ــــ «وين رحت يا سمير، عملنا الحرب كرمالك؟ تعا وقّف هون».
لحظة تساوي ثلاثين سنة. لا أستخفّ بأيام السجن ولا أبالغ في وصف حضور السيد لاستقبالنا مخاطراً بنفسه. لكني شعرتُ بأن تاجاً وُضع فوق ثلاثين عاماً.
أدركتُ في لحظتها أنني عدتُ إلى لبنان.
وقفتُ خلف المايكروفون. نظرتُ إلى الحشود. من أين آتي بالكلام. لم أستعدّ لهذه اللحظة.
نطقتُ بما أفكر فيه:
-«صدقوني لم أعد إلى هنا إلا لأعود إلى فلسطين. عدتُ لأعود...».
بتوقيت بيروت