ثقيلةٌ خطوات هادي (اسم مستعار للشاب المقاوم). لم يستطع رفع رجليه والتقدّم أكثر. كانتا تغرزان في الأرض، كأنهما وتدان مشدودان بحبال. كلّما همّ بالمسير، ازدادت حركته بطئاً، واحمرّ وجهه أكثر، وتصبّب عرقاً. لقد دخل «الوادي المقدّس».
حمل الشاب العشريني عدّة تصويره، وراح يلتقط صور آباء الشهداء، الذين نظّمت لهم مؤسسة الشهيد رحلة إلى مواقع عمليات المقاومة في سلسلة لبنان الشرقية. تلازمت خطواته مع خطوات أربعيني أربكته هالة المكان.
ـ أنت والد الشهيد...؟
ـ نعم. (بهدوء ثقيل).
ـ أنا وابنك كنّا هنا يا حاج.
يرسم ذكر الشهيد بسمة على وجه والده، الذي كان
جوابه استفساراً صاعقاً لهادي.
-طمنّي، كان أبضاي؟ (هل قاتل جيّداً؟)
لم يستطع هادي صياغة جواب عن سؤال والد صديقه. وسام الشهادة كان كفيلاً بأن يتولّى الإجابة. فالشهيد كاظم (اسمه الجهادي) معروف في أوساط المقاومين بقتاله الشرس، رغم صغر سنّه. أشار الوالد إلى غيمة كبيرة حجبت الشمس. كان لونها مختلفاً، عادت البسمة إلى وجه الوالد مجدداً. نادى هادي، بصوت مخنوق، وقال له: «روحُ ابني غطّت المكان، هوّي هون، معنا، وأنا حاسس فيه».
صُدِم هادي بما سمعه. لطالما سمع عن آباء
الشهداء، وصبرهم. ولكن هذه الرحلة كانت فرصة حقيقية لمرافقتهم، والاحتكاك بهم،
والسماع منهم، لا عنهم. فقرّر أن يلتقط كلّ تفاصيلها.
كانت الطريق طويلة نسبياً، وموحلة بعض الشيء.
اختار المعنيون مكاناً يسهل الوصول إليه، فأعمار الضيوف لم تعد تسعفهم في المسير
الطويل. إلا أنّهم عكّزوا على ذكريات أبنائهم الشهداء التي كانت لهم سلوى وعزماً
لمواصلة الرحلة.
تقدّمت كاميرا هادي خط «القافلة» التي جاوز عدد المشاركين فيها المائة. حاول جمعهم في إطار واحد، كما حاول أيضاً أن يلتقط نظراتهم، لكنه فشل في الأمرين. فقد تفرّقوا، كل واحد منهم يبحث عن أثر لولده: أين نام؟ وأين قاتل؟ وماذا فعل؟ أين استشهد؟ أما عيونهم، فقد أذبلها حنين جارف، لا يتوقّف سوى بـ«سجود على أرض الوادي المقدّس».
التقت «قافلتان» في نقطة على خط المسير.
استقبلت إحداهما الأخرى. كان صفّاً لمقاومين تهيّأوا لاستقبال الوافدين إليهم.
لبسوا كامل عدّتهم. بدلات مموّهة بلون صحراوي، وعتاد كامل، وسلاح حاضر. كأن الهجوم
سيبدأ بعد قليل، بانتظار نداء قمرة القيادة.
كلّمت عيون الآباء عيون المقاومين، كان المشهد
صاخباً. لم يستطع هادي تركيز إطاره، فقد صعبت مهمته. كلّما حاول التقاط دمعة نازلة
من عيونهم، جارتها دمعته. ترتجف يدا الشاب المثقلة من عصف الحنين. وكأن الهواء
يحمل المشاعر ويرميها في صدره. بات نَفَسَهُ ثقيلاً. شرَدَ قليلاً، تاركاً عدسته
تصوّر، وعينه تحفظ ما يرى.
خيّمت هيبة المكان على أحاديث الآباء طوال
الطريق. سبقهم الشوق إلى هناك. استعدوا جيّداً. أحدهم لبس إحدى بدلات ابنه، وتعصّب
بعصابته، فيما وضع كل واحد منهم زرّاً بالقرب من قلبه، يحمل صورة «شهيده».
أما والد الشهيد مالك شمص، فقد استعدّ جيّداً.
فهو الضيف، ولا يرضى إلا أن يحمل هديّة لمضيفيه. حين تصافحت الأيادي، شدّ بعضها
على بعض، إلا يدي شمص. كانتا رقيقتين، كالورود الحمراء التي جمعها. أعطى كل مقاوم
واحدة. فهو على موعدٍ مع أحبائه، ولم يرض إلا بهدية المحبّ. وردة، وصورة «شهيده»،
الذي ارتقى هنا. منح شمص الرحلة رومانسية رقيقة كروحه. وأخجل محبّيه، فطأطأوا
رؤوسهم. كان المشهد فعلاً عبارة عن دمعتين ووردة.
حضن أحد الآباء مقاوماً، وسأله:
ـ وين بتصير الزبداني. يسأل عن مكان ارتقاء ابنه.
ـ 12 كلم، خط نار، يا بيّي (أبي). يجيب المقاوم.
ـ يالله يا ابني، بس بعيد عنّك هلقد... يسكت،
وابتسامة المقاوم تحاكي عيني أبي الشهيد.
يعود الأب ويحدّث نفسه، مُسمعاً الجبال نداءه.
«الله يبيّض وجهك يا ابني».
يواصل هادي رفقته لآباء الشهداء. يتابع تصويرهم، لـ«حفظ ما تيسّر»، في وقت تستعد فيه سريّة من المقاومين، في النقطة الثانية، لاستقبال الوافدين. سبقهم هادي، ثبّت الكاميرا جيّداً، وتهيّأ لالتقاط المشهد. تأهّب المقاومون في أماكنهم، بانتظار ضيوفهم. استعاد الآباء مشاهد من مراسم سابقة لإحياء «يوم القدس العالمي»، عندما كانت تمرّ السرايا المرصوصة أمام المدرّج. ضغط هادي زر التسجيل، وبدأ مهمته. حينها، كُسرت الأصول. توقّع الجميع سلاماً هادئاً، كالسلام الأوّل، واستكمالاً للمسير. إلا أن الآباء ركضوا باتجاه منتظريهم. ضمّ الآباء المقاومين إليهم. حضن كلّ واحد منهم مقاوماً. لم يستطع الطرفان حبس دموعهم. ولم يتمكّن هادي من إكمال مهمته. كانت تصعب شيئاً فشيئاً. يختزل السلام المشهد، ولكنه يبقى ناقصاً. الدموع المنهمرة، الشوق الجارف، الحنين الذي أطفأ البرد القارس. كلها عجزت كاميرا هادي عن حفظها، فيما حفظتها الجبال العاتية، كما حفظت دماء الشهداء.
صوّر هادي ما استطاع، وزخرت ذاكرته بمشاهد الصبر. صلّى بجانب أبي الشهيد حمزة المقداد، قرينه في العمر. مسح والد المقداد على رأس هادي.
ـ شعرك بيشبه شعر حمزة... قال له وأكمل مسحه على شعر هادي، متأملاً وسارحاً في شوقه لشهيده.
كان موقفاً صعباً على هادي. حاول أن يجيب، ولكنه فضّل الترحّم على الشهيد. كسر المقداد تثاقل هادي. حدّثه عن ابنه، عن بطولاته، عن حديثهما الأخير على «الواتسآب»، قبل ارتقائه. تابع المقداد حديثه، عن ملازمة الشهيد له: «بيجيني دايماً بالمنام، شايفو كتير، عريس... والله عريس بالجنّة». يسود صمتٌ جديد. يتهرّب هادي، الخجل أمام الوالد، من أمامه، ويكمل جولته بين الآباء. يتعرّف إليهم واحداً تلو الآخر. يصوّرهم، ويتصوّر معهم.
ابتسامة تلخّص صبرهم، وجواب واحدٌ، «لبّيك يا نصرالله».
نــور أيــوب/ جــريدة الأخـبار
بتوقيت بيروت