ليست أم علي كغيرها من أمهات "الشهداء". بابتسامة عريضة تنظر إلى صورة ابنها في آخر إفطار له مع صديقه عماد في سوريا.المرأة الخمسينية تدرك جيدا أن دم ابنها لم ولن يذهب هدرا. هو غادر ذات صباح مودعا.
لم يقل الكثير، طلب الدعاء والرضا، لملم ما تيسر من مستلزمات الرحيل على عجل. انتظرت الأم لأيام، لم يعد علي ليأتي الخبر: "استشهد خلال أدائه واجبه الجهادي". بكت أكثر من دمعتين ووردة، فرغم الإيمان بـ "صوابية النهج"، إلا أن المشاعر الإنسانية تطغى في غالب الأحيان على كل ما عداها.
في الثاني من تموز رافق علي صديقه عماد على درب، كان الشابان على أتم الاقتناع بأنها الطريق الأمثل لصيانة الأرض. شابان ترافقا منذ الصغر، كان كل واحد منهما يفكر بصديقه كأنه نفسه، لا يفصلهما من العمر سوى يوم واحد، إذ أنهما مولودان في السنة ذاتها وفي الشهر عينه، كما أنهما مولودان في شهر رمضان واستشهدا خلاله. شاءت الأقدار أن تستمر الصحبة التي جمعتهما في حياتهما القصيرة حتى بعد استشهادهما، فكانا صديقان في الدنيا والآخرة. لكن الفارق كان أن عاد عماد جثمانا إلى ذويه لتحضنه الأرض التي كان يدافع عنها، في حين بقي جثمان علي أسيرا.
هي "الشهادة والدفاع عن الأرض والمقدسات وعن كل لبنان بكل طوائفه"، لازمة لا تفارق لسان أم علي الثكلى. لا تفارق الدموع عينيها، تتحدث بصوت خافت. وجنتاها شاحبتان. وقد لفت وشاح علي حول رقبتها. جافى النوم وجهها المستدير منذ زمن، منذ اللحظة التي أقفل فيها ابنها خلفه باب البيت. "لم يلتفت في حينها إلى الوراء"، تقول قبل أن تضيف أن "قلب الأم دليها دائما، كنت أعلم، أحسست بأنه لن يعود، لكن جل ما أريده اليوم هو أن أكحل عيني بنظرة أخيرة إلى جثمانه".
علي درس الفندقية، وعمل في هذا المجال لثلاث سنوات قبل انخراطه في خط الجهاد. تؤكد والدته أنها وافقت على الخط الذي سلكه ولدها من دون اعتراض. تقول: ""عندما شاركنا في تشييع عماد أحسسنا أننا في تشييع علي، فهو ولدنا"، متمنية أن يفك الله أسر ابنها " ويرجع كل الشباب ويباركلو بيللي اختارو".
ولأم محمد والدة عماد، حكايتها، مجروحة هي الأخرى.
وإذ تداري دموعها خلف وشاح أسود، تقول إن "حزب الله" يشجع الشبان على الإيمان، لهذا أرادته أن ينخرط في صفوفه فكان عماد "مؤمنا لا يتعدى على أحد".
أما شقيقتاه فتقولان والدموع تنهمر من عيونهن: "عماد كان متواضعاً جداً ولم يكن يريد شيئاً من هذه الحياة سوى الشهادة"، لكن رغم ذلك إلا أنه كان محبا للحياة بكل مظاهرها.
يوم السبت الماضي نال الشابان ما تمنياه دوماً، فقد استشهدا معاً في اليوم نفسه وفي الدقيقة ذاتها عندما أصاب القناص "علي". حاول عماد سحب جثته فأصابه القناص هو الآخر. ليعود عماد "عريسا" إلى أهله فيما بقي جثمان "علي" لا يزال محتجزا لدى المسلحين في الزبداني.
"كانت أمنية عماد أن يستشهد إلى جانب علي".. تقول الوالدتان لتتحدثا عن أن الدليل هو بأنه عندما أنهى عماد تدريبه قبل علي، وجمد تدريبه إلى حين انهاء علي لتدريباته كي يتساويا في المرتبة ويذهبا سويا إلى نفس الميدان في ذات المعركة.
الآن تعلم الوالدتان، أم علي وأم محمد، بأنه كان لكل ابن منهما صديق هو أخ لم تلده أمه. الآن جمعها الحزن نفسه، لتتحولا بدورهما إلى حزينتين يجمعهما "النهج" و"الشهادة" وإيمان راسخ لن يزيحه عن صراطه موت، ولن تثنيهما عنه معركة يخرج فيها أبناء لا يعودون إلا جثامين في أحيان كثيرة.
ميساء خليل/ جريدة السفير
بتوقيت بيروت