﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ (سورة القدر).
كان الشتاء قارساً، والثلج والجليد يُغطّيان الطرقات، لكنّ دفء شهر رمضان قد بلغ أوجَهْ. لقد انقضت ليلتا التاسع عشر والحادي والعشرين من هذا الشهر، اللّيلتان اللّتان يُحتمل أن تكون إحداهما ليلة القدر. وها نحن في اللّيلة الثالثة والعشرين، الليلة التي يُرجّح أن تكون هي ليلة القدر أكثر من اللّيلتَيْن السابقتَيْن، ولذلك فهي بالنسبة إلى كلّ مسلم أهمّ ليلة في السنة. لكننا تبلغنا: لديكم زيارات لعوائل الشهداء الليلة!
* مصير السنة في ليلة...
هي ليلةٌ يُكتب فيها مصير السّنة القادمة بتمامه للنّاس. ولو أنّ مؤمناً علم قدر هذه اللّيلة لأمكنه من خلال الدّعاء والمناجاة والطلب من اللّه أن يؤثّر في هذا المصير. إنّه أمر أولياء الله أن يبقى المؤمنون في هذه اللّيلة مستيقظين، ويحيوها بذكر الله والعبادة والدعاء.
يُخيّم على هذه اللّيالي أيضاً شيء من الحزن والعزاء. فهذه هي اللّيلة الخامسة الّتي نذرف فيها الدمع لمصابنا بأمير المؤمنين عليّ عليه السلام الذي ضُرب رأسه الشريف واستشهد في مثل هذه الأيام.
* فكرة تشغل بالي
لطالما شغَلتني في ليالي القدر هذه الفكرة: ما الّذي يدعو به ويطلبه جناب السيّد القائد في هذه اللّيلة؟ وحيث إنّني أعمل في مكتبه، وأرى وأسمع وأقرأ قسماً من القضايا المتعلّقة به، يقلّ صبري في ليالي القدر، وتكون جعبتي مملوءة بالحاجات. وفي ظلّ هذه الأوضاع الحسّاسة في البلد وفي العالم، وحيث إنّه لم يبقَ من ليالي القدر إلّا ليلة واحدة، كان ينبغي أن يُقدّر وقت هذه اللّيلة لحظة بلحظة. الغفلة ممنوعة ولو بأدنى مقدار.
* أيّ الأعمال يختار؟
لقد عقدت الأمل على هذه اللّيلة، ووضعتُ برنامجاً وجدولة زمنيةً لإحيائها. وأُفكّر مجدّداً في أنّني أنا اللّاشيء، لديّ كلّ هذه الحاجات في هذه اللّيلة وأضع لنفسي برنامجاً، فكيف بقائدنا الّذي تشغله كلّ الهواجس والهموم بشأن الثورة والبلد والعالم الإسلامي. هو الذي عليه أن يعبُر بسلامةٍ بهذه السفينة وسط هذا الطوفان والفتن، كيف تكون حاله؟ وما هو البرنامج الذي وضعه لليلته هذه؟ ومن بين كلّ الأعمال والعبادات الخاصّة بهذه اللّيلة، أيّ عمل قد وجده هو المقرّب إلى اللّه أكثر؟
* عظمة ليلة قدر القائد
جلستُ على سجّادة الصلاة في الغرفة الأكثر هدوءاً في المنزل، وقبل البدء بالأعمال رُحت أُفكّر في عظمة ليلة القدر، وعظمة ليلة قدر السيد القائد. وفجأة، رنّ جرس الهاتف، إنّه من المكتب. يقولون إنّ لدينا برنامج زيارة منازل عوائل الشهداء هذه اللّيلة.
عجيب! اللّيلة! اللّيلة التي ينبغي أن نمضيَها في العبادة! ألا يُمكن أن يؤجّلوا هذا البرنامج إلى ليلة الغد مثلاً؟ هل حقّاً ينبغي أن نذهب في هذه اللّيلة الثالثة والعشرين التي هي أهمّ ليالي السنة!
بحزنٍ واغتمام من ضياع هذه الفرصة، أجرّ خُطاي بتثاقل إلى المكتب. أتوجّه لجلب مصاحف للعوائل الّتي سنزورها. قالوا لي: لا حاجة إلى ذلك. تعجّبت كثيراً، ففي هذه الليلة يضع الجميع القرآن على رؤوسهم، أليس من الواجب أن نحمل معنا المصاحف إلى عوائل الشهداء؟ يقولون: إنّ العوائل الّتي سنزورها الليلة أرمنيّة. عجيب! لم أكن ملتفتاً أبداً إلى أنّ القائد وفي هذه الأيام من شهر كانون الثاني، والتي هي أيام السنة الجديدة الميلاديّة، يزور عادةً منازل الشهداء المسيحيّين.
* رأيته فذهب حزني
تسير سيّارتنا خلف سيّارة السيّد الخامنئي دام ظله، وتمرّ أمام ناظري مشاهد العزاء في المدينة وأرى الناس يتوجّهون إلى المساجد فيزداد حزني وغمّي. وأنا في خضمّ هذه الأفكار نتوقّف. وحينما أرى القائد وأُسلّم عليه، تتنحّى كلّ هذه الأفكار جانباً. لقد هيْمنت أجواء حضوره وملأت فراغ قلبي.
بعد كلّ تلك السنوات من مرافقته، منذ أيّام ما قبل الثورة وإلى اليوم، لم تكن رؤية هذا الوجه بالنسبة إليّ عاديّة أو متكرّرة. في كلّ مرّة يرتجف قلبي وأشعر بالخشوع عند رؤيته.
* زيارة عائلة الشهيد
نسير خلف خطى السيّد القائد وهو يصعد درج أحد المنازل، فمنزل عائلة الشهيد في الطبقة الثانيّة. نلتفتُ إلى وجود شهيدَيْن في هذه الأسرة، أب وابن. وكلاهما قد سقط شهيداً في الهجمات المسلّحة للمنافقين في شوارع طهران.
يقف أمامنا شابٌّ في الثالثة والعشرين، لا بدّ من أنّه ابن الشهيد أو أخو الشهيد. يُجيب بدهشةٍ وذهول على سلام السيّد ويُصافحه بشدّة.
ندخل المنزل لنرى سيّدةً في الستينيّات من عمرها، ترتسم على وجهها ابتسامة عريضة لرؤية القائد. تُرحّب زوجة ووالدة الشهيد بالقائد عدّة مرّات وبارتباك: "أهلاً وسهلاً بكم. يا ألف أهلاً وسهلاً". وتُرشد القائد إلى غرفة الاستقبال.
لا يزال الشاب مذهولاً ووالدته في حبور. وتُرافق السيّد الخامنئي إلى غرفة الاستقبال.
* صور الشهداء
في غرفة الاستقبال، جلس القائد على إحدى الكنبات وقد وُضعت أمام الكنبات طاولةٌ عليها صورتان للشهيدَيْن موسسيان(1).
بمجرّد أن جلس القائد وقعت عيناه على الصورتين أمامه فقال:
- حسناً. عرّفونا إلى صاحبي هاتين الصورتين.
كان يهمّ بالقيام لالتقاط الصورتين، فيُبادر ابن الشهيد بسرعة إلى حمل الصورتين عن الطاولة وتقديمهما إليه.
أوّل صورة هي صورة لأب العائلة، يتأمّل القائد الصورة ويقول لوالدة الشهيد:
- هل استشهد هو أولاً أم ابنكم؟
- ابني أولاً، تجيب الوالدة.
يضع "السيّد" صورة الوالد "هايقان موسسيان" جانباً، ويحمل صورة الابن الشهيد "إدموند موسسيان".
في لقاءاته مع عوائل الشهداء، ينظر سماحة القائد إلى صورة الشهيد وكأنّه يعرفه من قبل. هذا العمل البسيط نفسه؛ أيْ مشاهدة صورة الشهيد، هو بمثابة مواساة لعائلته الّتي تتحسّر لرؤيته، ولا تستطيع النظر إليه إلّا عبر الصورة.
- أين استشهد يا سيّدة؟
لقد استشهد ولدي في الشارع، وزوجي في الزقاق الّذي نعيش فيه...
يضع القائد الصورة على الطاولة ويتناول مجدّداً صورة الأب، وينظر إليها ويقول: "أسأل الله أن يمنّ عليكم بالأجر والصبر، وأن يجعل هذه المصائب الّتي نزلت بكم وسيلة للقرب المعنويّ، ويُهدّئ من روع قلوبكم. إن شاء الله تكون سبباً ليمتلئ قلبكم بالنور الإلهيّ والرحمة الإلهيّة".
* مظلوميّة شهداء الإرهاب
يُعلم من النظر إلى وجه والدة الشهيد كم عانت طوال هذه السنوات! وكم هرمت! لقد خسرت هذه الأم في أقلّ من ثلاثة أشهر كلّ سند وملجأ ومعين.
شهيدا هذا البيت هما شهيدا الإرهاب ولهما مظلوميّة خاصّة. فشهيد الإرهاب قد تمّ قتله بأخسّ صورة خالية من المروءة، وحتى إنّه لم يملك فرصة الدفاع عن نفسه.
أجواء المنزل هي أجواء عيد الميلاد. في زاوية غرفة الاستقبال طاولة قد وُضِعَتْ عليها أطباق من المكسّرات والحلوى والشوكولا والفواكه المجفّفة.
- أسأل الله أن يكون عيد ميلاد حضرة السيّد المسيح مباركاً عليكم، يقول السيد القائد، ثم ينظر إلى أمّ الشهيد ويشير إلى الابن الشابّ ويسأل: كم كان عمره عند استشهاد والده؟
- كان ابن ثلاث سنوات. الآن عمره ثلاث وعشرون سنة.
في العادة، القائد حسّاس بشأن كيفية تمضية أبناء الشهداء مرحلة الشباب ومتابعتهم للدراسة، ويجد لزاماً عليه أن يوصي هذا الشاب بروح أبويّة بضرورة استثمار أهم رأسمال بين يدَيْه وهو نعمة شبابه:
- لم يتأخّر الوقت بعد على دراستك. فبمجرّد أن تسنح الفرصة تابع الدراسة. ينبغي أن تعرفوا أهميّة عمر الشباب. بعض الشباب يُضيّعون سنوات شبابهم في اللّذائذ الآنيّة وهي ليست شيئاً حتّى يُصرف لأجلها عمر الشباب الثمين. ينبغي أن يصرف الإنسان سنوات شبابه في ما له قيمة وفي ما يبقى.
أثناء حديث السيّد مع الشابّ، تُحضّر الأمّ الشاي والحلوى بطعم الزعفران. يتناول منها السيّد ويشكرها.
* أسعدْت قلوبنا
في ختام الزيارة، يرجع القائد إلى ابن الشهيد حتّى يلتصق به تقريباً ويسأله عن اسمه الأول. وبعد أن يسمع الجواب، يهزّ برأسه ويُكرّر اسم الشاب مرّات عدّة وكأنّه يقول ما أجمل هذا الاسم!
ثمّ وبوقفة منحنية، وبكلتا يديه يُقدّم لابن وأخ الشهيد، ولأمّه هدية، ويقول:
- تفضّلا، هذه بعنوان عيديّة.
تشكر الأم والابن السيّد القائد على الهديّة، وعلى تشريفه منزلهما وإدخال السرور إلى قلبَيْهما.
(*) رواية عن حضور الإمام الخامنئي دام ظله، في منزل الشهيدَيْن هايقان وإدموند موسِسيان، في تاريخ 01/01/1999م. من كتاب: المسيح في ليلة القدر، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
(1) الشهيد هايقان موسسيان شهيد الإرهاب في طهران، تاريخ الاستشهاد: 03/09/1981م، والشهيد إدموند موسسيان شهيد الإرهاب في طهران، تاريخ الاستشهاد في 13/06/1981م.
مجلة بقية الله