کلمة الإمام الخامنئي لدى استقباله المشاركين في المسابقات الدولية الرابعة والثلاثين للقرآن الكريم في حسينية الإمام الخميني (رضوان الله عليه) (1)_27/4/2017
بسم الله الرّحمن الرّحیم
الحمد لله ربّ العالمین والصّلاة والسّلام علی سیّدنا ونبیّنا أبي القاسم المصطفی محمّد وعلی آله الطّیّبین الطّاهرین المعصومین.
أرحب بجميع الحضور المحترمين، وخاصة الضيوف الأعزاء الذين شرّفونا من مختلف البلدان الإسلامية وشاركوا في هذا البرنامج القرآني الكبير؛ وبشكل خاص الأساتذة والحكّام والمحققين الباحثين القرآنيين. وأشكر المسؤولين والعاملين الذين أنجزوا هذه المراسم العظيمة وأطلقوا هذا النشاط وأداروه بأفضل وجه.
اعلموا أوّلاً أنّ ما قمتم به هو حسنة كبيرة؛ اليوم وفي كل أنحاء العالم الإسلامي، كل عمل ينجز في سبيل القرآن وكل ما يهدف لفهم القرآن وترويجه، هو من أكبر الحسنات التي يمكن تصورها؛ إن عملكم هذا هو حسنة. أخلصوا نواياكم لله، وبعيداً عن الهواجس النفسانية وعن الدوافع المتعددة الأخرى، كي يكون عملكم محلّ قبول الله وتكونوا مأجورين عنده إن شاء الله.
يجب أن تستمر هذه الحركة القرآنية في بلدنا؛ إننا بعيدون عن القرآن؛ نحن غرباء عن القرآن؛ لسنا على معرفة بمفاهيم القرآن؛ يجب أن نقوم بعمل ما؛ أن نسعى ونبذل من الجهود ما يجعل مفاهيم القرآن من المفاهيم الرائجة والخطابات العامة لدى شعوبنا المسلمة وبلداننا الإسلامية. وإن شاء الله سأتحدّث حول هذا الموضوع في فرصة أخرى.
المفاهيم القرآنيّة مصدر النجاة
ما أعرضه هنا هو أن لدينا في القرآن معارف، لدينا مفاهيم في القرآن وهذه المفاهيم في الحقيقة هي مفاهيم صانعة للحياة المقتدرة القوية والعزيزة للأمة الإسلامية؛ وهي حقاً مصدر نجاة للأمة الإسلامية من المصائب والبلاءات؛ لدينا هذه المفاهيم في القرآن. ولكي تتحقق هذه المفاهيم عملياً، يجب أولاً جعل هذه المفاهيم من بينات أفكار المجتمع الإسلامي، والقيام بما من شأنه جعلها واضحة ومحسومة للمجتمع الإسلامي، بحيث لا يتأتّى لأي أمر صدّها والحؤول دون تحققها. نحن لا نزال مبتلين في هذه المرحلة، ما زال لدينا مشكلة في هذه المرحلة؛ يجب أن نقوم بما يبدّل هذه المفاهيم في المجتمع الإسلامي إلى مسلّمات فكرية، أن تصبح هي أكثر الأفكار المشتركة الرائجة بين كل فئات الناس؛ هذا هو العمل المطلوب، والذي يجب القيام به في مجال القرآن. إنّ كل هذه اللقاءات والجلسات والتلاوات والحفظ –وكلها أعمال ضرورية وحسنة- هي مقدمة لذلك الفهم والوعي العمومي.
.. فَقَدِ استَمسَكَ بِالعُروَةِ الوُثقیٰ
وسأذكر هنا واحدًا من هذه المفاهيم كنموذج ومثال. قال تعالى: " فَمَن یَکفُر بِالطّاغوتِ ویُؤمِن بِاللهِ فَقَدِ استَمسَكَ بِالعُروَةِ الوُثقیٰ لَا انفِصامَ لَها"؛ هذه معرفةٌ، هذا أصلٌ؛ الكفر بالطاغوت والإيمان بالله. أي أن نقسم كل العالم إلى قسمين: محل نفوذ الطاغوت، ويجب الكفر به، وقسم آخر هو محل نفوذ الله، ويجب الإيمان به والتصديق به؛ هوية إيمانية في مقابل هوية الكفر. وهذا لا يعني أبداً أنّنا ينبغي دائمًا أن نحارب كل من يمثل هوية الكفر؛ ولا يعني القتال ولا عدم التواصل؛ ولا يعني عدم تبادل المعلومات؛ بل معناه استقلال الهوية الإيمانية وترسيم حدود الهوية الإيمانية ليتمكّن الإنسان، في مقابل هوية الطاغوت وهوية الكفر، أن يحافظ على نفسه ويصون نفسه ويتكامل ويتقدم للأمام.
انظروا ماذا يمكن أن يحدث..
أين يكمن بلاء الأمة الإسلامية اليوم؟ إنّه في تسلّط الثقافة الغربية على الأمة، تسلّط الاقتصاد الغربي وتسلّط السياسة الغربيّة عليها؛ هذه هي المصائب والبلاءات. في كثير من البلدان الإسلامية، لا يوجد اليوم شيء باسم الهوية الإسلامية؛ نعم، الناس مسلمون، يصلّون ويصومون، ولعلّهم يدفعون الزكاة أيضاً، ولكن على مستوى منظومة المجتمع لا يوجد لديهم هوية إسلامية؛ أي لا يوجد شخصية وحقيقة في مقابل حقيقة الكفر وحقيقة الطاغوت. لذلك ترون كيف أن الآخرين يتدخّلون في شؤون هذه البلدان الإسلامية؛ يتدخلون في ثقافة المسلمين وفي اعتقاداتهم وفي اقتصادهم وفي علاقاتهم الاجتماعية، يتدخّلون في سياساتهم ويمسكون بقراراتهم. وحينها تكون النتيجة هي هذا الوضع، لأنّه لا يوجد داخل المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية هوية واحدة، فتقع الاختلافات والحروب والعداوات والمشاكل وسوء التفاهم؛ هذا ما يحدث. إن عالم الكفر عازم اليوم على إضعاف هذه الهوية والقضاء عليها؛ حيثما بقي أثر من هذه الهوية في أي نقطة من العالم، يريدون القضاء عليها. هذا أصل إسلامي؛ ﴿فَمَن یَکفُر بِالطّاغوتِ ویُؤمِن بِاللهِ فَقَدِ استَمسَك بِالعُروَةِ الوُثقیٰ لَا انفِصامَ لَها واللهُ سَمیعٌ عَلیم(2)﴾ هذه حقيقة. إذا فهمنا هذه الحقيقة بشكل صحيح وإن تابعناها بإصرار وجعلناها فهماً عاماً في المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية، ستشاهدون أي تحوّل سيحصل! لاحظوا أن هذه حقيقة واحدة، ويوجد مثلها المئات من الحقائق في القرآن، وأي تحوّل توجِد في العالم الإسلامي! إذا أدركنا هذا الأمر وفهمنا هذه المعرفة بشكل صحيح وآمنا بها ونشرناها، انظروا ماذا يمكن أن يحدث!
القرآن مظهر الهويّة الإسلاميّة
يجب فهم القرآن؛ نحن بعيدون عن القرآن، والعدو يستغل حالياً هذا البعد عن القرآن. يوماً بعد يوم، يقوم العدو بضخ التجرد عن الإيمان وترويج اللامبالاة بيننا، ويشيع التبعية له. انظروا إلى الحكومات الإسلامية، انظروا إلى البلدان الإسلامية، أنظروا لتروا كيف هو وضعها مقابل أمريكا ومقابل الصهيونية والأعداء، مقابل الناهبين المتسلطين!
كل هذا بسبب البعد عن القرآن، إذا اقتربنا من القرآن، سيتم ملء كل هذه الفراغات وإقفال كل هذه المنافذ، وستظهر الهوية الإسلامية نفسها مقابل هوية الكفر. معنى ما نقوله إننا إن عملنا بالقرآن فإن الحياة ستصلح، هو هذا؛ يوجد معارف قرآنية، وهذه المعارف يجب أن تُبدّل إلى خطابات عامة بين الناس، وأن تكرر وتكرر، ويعمل عليها، ويتم البحث والتحقيق حولها، ويجري الكتابة عنها وينتج الشعراء والأدباء والفنانون أعمالاً فنية عنها، بمقدار كبير ومستمر، إلى الدرجة التي تصبح معها هذه المعارف، من واضحات وبيّنات المجتمع الإسلامي؛ وبالطبع فإن هذه ليست مُحالاً ولا شديدة الصعوبة، هذه ليست بعيدة عن متناول اليد، ولا يتخيّلنّ أحد بأننا إن أردنا أن نقوم بهذه الأعمال، فإنها ستستغرق مئة سنة؛ كلا، إذا شمّر أهل القلوب وأهل الدين عن سواعد الهمة، فإنّ هذه الأعمال تتحقق بشكل سريع؛ يجب الاهتمام بالقرآن بهذا الشكل.
ببركة الثورة، جلساتُ القرآن عامرة
وبحمد الله، نجاحاتنا في التقرب إلى القرآن في الجمهورية الإسلامية لم تكن قليلة؛ كنا سابقاً بعيدين جداً عن القرآن؛ في زمن دولة الطاغوت في هذا البلد، كان القرآن مهجوراً بشكل كامل؛ ولم يكن أي أثر للقرآن في مدارسنا ومؤسساتنا التربوية– مدارس الأطفال ومدارس الكبار والثانويات والجامعات- ؛ لم يكن للقرآن حضور في مجتمعنا. كان هناك لقاءات قرآنية ولكنها كانت مهجورة؛ وقد شاهدنا عن كثب، نماذج منها في طهران ومشهد وبعض الأماكن الأخرى، وكذلك سمعنا ببعضها الآخر؛ حيث كان يأتي بعض الأشخاص فيتلون القرآن ومن ثم ينفضّون وينتهي الأمر. لم يكن هناك إلا القليل القليل من حالات حفظ القرآن والأنس بالقرآن والتلاوات المستمرة ونشر المعارف القرآنية. لقد قرّبتنا الثورة من القرآن، عرّفتنا إلى القرآن. إننا نفتخر اليوم بأننا محبّون متعلقون بالقرآن، مشتاقون للقرآن، نفتخر بأنّ شبابنا محبّون للقرآن متعلقون به. اليوم وفي كل مكان في هذ البلد، في كل مدينة، وحيثما يتم الإعلان عن إقامة جلسة قرآنية، يتوافد الشباب عليها بشكل حاشد. تلاحظون وترون جلسات القرآن في كل المدن وكل المحافل، كيف يتوافد الناس ويجلسون ويستمعون؛ كل هذه الأمور تحققت ببركة الثورة، ببركة الإسلام.
فلنأنس بالقرآن!
وأنتم يا من تعلّقتم بالقرآن وتصدّيتم لشؤون القرآن؛ لا تتركوا هذا المجال وتابعوا هذا العمل بمنتهى الجدّية؛ فلا تقولوا ها نحن قد وصلنا الى هذا المستوى .. وكفى! كلا، إن العمل للقرآن وحول القرآن لا يعرف النهاية؛ علينا أن نسعى كثيرًا ونعمل ونبذل الجهود الكبيرة؛ على الجميع أن يعملوا ويسعوا ويثابروا؛ فلنأنس بالقرآن، ينبغي أن يأنس كل أفراد الأسرة والشباب والناس كلّهم بالقرآن. إنّ هذا الحفظ للقرآن باعث للأنس بالقرآن، وكذلك تكرار هذه الجلسات يوجِد الأنس بالقرآن. إن لهذا الأنس بالقرآن منافع وفوائد كثيرة؛ وسيعلّمنا تلك المعارف إن شاء الله.
نأمل أن يثيبكم الله تعالى وأن يشمل كل الذين بذلوا جهوداً وتحمّلوا مصاعب كثيرة في هذا السبيل طوال السنوات المتمادية، بلطفه ورحمته؛ بعضهم قد رحل عن هذه الدنيا، نسأل الله أن يرفع درجاتهم؛ وأن يحفظ الأحياء لمجتمعنا؛ وأن يحشر إمامنا العظيم، الذي كان فاتحاً لهذا الطريق، مع أجداده الطاهرين ومع أهل القرآن إن شاء الله؛ نسأله تعالى أن يجعلنا نحن أيضاً من أهل القرآن إن شاء الله.
والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
1- هذا اللقاء هو اختتام للمسابقات الدولية الرابعة والثلاثين للقرآن الكريم والتي استمرت لمدة ثمانية أيام في طهران.
2- سورة البقرة، جزء من الآية 256.