عبد الستار قاسم
في أيار / مايو 2000 وقف العالم على رؤوس أصابع أقدامه، مشدوهًا أمام منظر الجنود الإسرائيليين وهم يفرون من جنوب لبنان، وينظرون خلفهم رعبًا من لحاق جنود لبنان بهم. فر الإسرائيليون تحت جنح الظلام بعدما أخذوا كل الاحتياطات لتأمين فرار آمن، وتركوا عملاءهم اللحديين خلفهم ليواجهوا مصيرهم من دون عون أو مساعدة.
لقد دهش العالم لأنه اعتاد أن يرى الجندي العربي يمسك طرف ثوبه بأسنانه موليًا الأدبار، ولأنه اعتاد على الجندي الإسرائيلي معتليًا صهوة دبابته ويتفاخر بانتصاراته السريعة على العرب. فاجأ حزب الله العالم بثباته وإصراره وثقته بنفسه وبشجاعة جنوده، وقدم التضحيات الجسام من أجل أن يحيا الوطن والمواطن. أما الإسرائيلي فظهر على حقيقته الرخوة التي تبحث دائمًا عن ملاذ يختبئ فيه عندما يجد الجد، وظهرت القيادتان العسكرية والسياسية الإسرائيليتان مشلولتين لا تملكان إرادة التحدي أو الصبر والمثابرة. لقد هشم حزب الله كل الانطباعات التقليدية السابقة حول شجاعة إسرائيل وميوعة جيوش العرب، ووضع نموذجا عربيا إسلاميا جديدا أمام العالم، استحق الاحترام والتقدير، إلا من بعض القوى العربية ومن ضمنها قوى لبنانية ساءها ما رأت.
استطاع حزب الله أن ينتصر
على العالم الذي اتخذ قرارًا رقمه 425 في مجلس الأمن، يطلب من إسرائيل الانسحاب
الفوري وغير المشروط من جنوب لبنان. فشل العالم في تنفيذ قراره، ونجح حزب الله
بصورة مذهلة في طرد إسرائيل من جنوب لبنان، من دون قيد أو شرط، مسجلًا بذلك أول
انتصار عربي حقيقي على إسرائيل، ومنهيًا بذلك أيضًا انتصارات إسرائيل.
ارتقى حزب الله ليصبح أيقونة الانتصار العربي، وكسب ثقة
الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، وأصبح السيد حسن بطل الأمة العربية
الجديد. ومع استياء العديد من دول العالم، بخاصة بعض أنظمة العرب من الانتصار، إلا
أن حزب الله كسب احترام قوى التحرر العالمية، وأصبح مثلًا يحتذى به في مناطق
مختلفة من العالم، بخاصة في أميركا اللاتينية.
التهيؤ لما هو آت
لم ينم حزب الله عند طرد الإسرائيلي من جنوب لبنان، ولم يكتف بما حققه من إنجاز عسكري كبير ليعيش على ذكراه، وإنما تابع المسيرة قناعة منه أن إسرائيل هي مصدر عدوان مستمر في المنطقة، وهي ليست موجودة فقط لحل ما يسمى بمشكلة اليهود، وإنما هي غرست في هذه المنطقة العربية لتكون عامل عدم استقرار، وقاعدة عسكرية متقدمة للاستعمار الغربي، ووسيلة لاستنزاف طاقات العرب والمسلمين ونهب ثرواتهم والحيلولة دون وحدتهم.
حزب الله مقتنع تماما بأن إسرائيل مركز طغيان وفساد وإفساد، ولا راحة في المنطقة العربية الإسلامية ما دامت موجودة على الخارطة، وأن لبنان، كالدول العربية الأخرى، لن يسلم من الاعتداءات الإسرائيلية مهما تذلل العرب وانبطحوا أمامها. إسرائيل ليست موجودة لإركاع العرب فقط في هذه اللحظة التاريخية، وإنما لضمان عدم قدرة العرب على النهوض لأجيال كثيرة قادمة، وهي لا تهدم الحاضر فقط، وإنما تعمل دائما على هدم المستقبل.
حزب الله يقرأ المعادلة جيدا، ويعي تماما أن لا مستقبل لعدد من الأنظمة العربية من دون إسرائيل، وأن محافظته على لبنان وعلى مستقبل العرب، تتطلب وعيا بدور عربي فاعل في دعم إسرائيل والمحافظة على بقائها في المنطقة، واستمرار وجودها. لهذا توجه حزب الله، فورا بعد انتصاره في أيار، إلى بناء قوة عسكرية تكون قادرة على الدفاع عن لبنان وردع إسرائيل، بمعزل عن الأنظمة العربية ما أمكن.
بدأ حزب الله البناء العسكري بدأب وصمت، ولم يلجأ إلى العادة التبجحية التي عهدها العربي عن الأنظمة العربية. وواضح أن حزب الله اعتمد عددا من الخطوات التي تمكنه من البناء بنجاح وألخصها بالتالي:
المرتكزات
أولا: إيجاد الحاضنة السياسية والعسكرية
المناسبة لعمل الحزب ضد إسرائيل. لم يجد الحزب عناء في إيجاد هذه الحاضنة لأن
إيران وسوريا كانتا مستعدتين لدعم توجه عربي وإسلامي ضد إسرائيل. بالنسبة لإيران،
مواجهة إسرائيل واستعادة الحقوق الفلسطينية العربية والإسلامية مسألة عقائدية لا
مساومة حولها، وهي دائما مستعدة لدعم المناهضين لإسرائيل بغض النظر عن انتمائهم
الفكري أو الطائفي أو الحزبي، وتأكد ذلك عندما أقامت الثورة الإيرانية أول سفارة
لفلسطين في العالم، مكان سفارة الكيان الإسرائيلي التي كانت موجودة في إيران
الشاه. وكذلك عندما دعمت فصائل فلسطينية محسوبة على المقاومة، بغض النظر عن
الانتماء المذهبي.
كان واضحًا من فكر الإمام الخميني أن الثورة الإيرانية لا تتخذ من القضية الفلسطينية مسألة سياسية، وإنما مسألة إسلامية من صلب العقيدة الإسلامية، وأن المسلم لا تكتمل صلابة عقيدته ما لم يكن ملتزما بتحرير الأراضي المقدسة من براثن الصهيونية. دعمت إيران، عسكريا وماليا وتدريبا وتسليحا، حزب الله، تمامًا كما دعمت الفصائل الفلسطينية المقاتلة، ولم تتخذ مواقف مذهبية. أما بالنسبة لسوريا فقد كان لديها الاستعداد لدعم كل جهة يمكن أن تساعد في تدعيم مواقفها القومية والمتمسكة بعروبة أرض الشام. ولهذا دعمت سوريا حركتي حماس والجهاد الإسلامي، مع الخلافات الآيديولوجية، تدريبا وتسليحا وبحثا علميا. لقد نقلت سوريا إلى فصائل المقاومة في المنطقة من دون تمييز الكثير من الخبرات العسكرية، وقدمت لها العديد من الأسرار العلمية بخاصة فيما يتعلق بصناعة الصواريخ.
بدأ حزب الله بحاضنة قوية وأساسية سهلت عليه عمله في مواجهة إسرائيل، لكنه لم يسترخ أو يتكل، بل قرر أن يكون على قدر المسؤولية، وعلى مستوى توقعات الذين يقدمون له الدعم.
وعي أبعاد
المعركة
ثانيا: التنظيم والتوعية. بدأ حزب الله حملة التنظيم والتوعية بين صفوف مؤيديه. لم ينشئ حزب الله ما يمكن أن نسميه لمّة عرب، وإنما حاول أن يكون دقيقا في اختيار عناصره الذين يشكلون النواة الصلبة ويشكلون جوهر قوة حزب الله البشرية. وهنا يجب التمييز بين أعضاء الحزب العاديين، وبين الملتزمين بنشاطات الحزب المتعلقة بالمواجهة مع العدو. أعضاء الحزب ومناصروه أكثر بكثير من الأعضاء الملتزمين أمنيا وعسكريا. وقد حرص الحزب على تنفيذ برنامج تثقيف وتوعية مكون من شقين: شق يتعلق بالعلاقات العامة مع المحيط اللبناني والعربي، وشق يتعلق بالعقيدة الإسلامية.
لقد ربى الحزب أبناءه
وثقفهم حول المشاكل والتحديات التي تعترض العرب والمسلمين، وبث فيهم الوعي حول ما
يمكن عمله، وما يمكن تأجيله، ورفع لديهم مستوى الالتزام بقضايا الأمة وعلى رأسها
قضية فلسطين. لقد اختلف حزب الله في برامجه التثقيفية عن كل العرب، في أنه لم يعلم
أبناءه الالتزام بقضية الفلسطينيين وإنما الالتزام بقضيتهم هم والتي هي قضية
فلسطين. لم يع عنصر حزب الله أنه يقاتل معركة الآخرين، وإنما يقاتل معركته هو، لأن
فلسطين له كما هي للفلسطينيين. ولهذا لا يمكن أن يسمع فلسطينيٌ لبنانيًا، مثقّف
بثقافة حزب الله، يتمنن عليه في أنه قاتل من أجله، مثلما تفعل دول عربية أخرى
أذاقت الفلسطينيين المر بسبب هزائمها أمام إسرائيل. وكذلك خضع مقاتلو حزب الله
لبرنامج تدريبي قاسٍ واحترافي، جعلتهم من أفضل، إن لم يكونوا الأفضل، على المستوى
العالمي...
... ثالثًا، التحصين الأمني
ركز حزب الله على التحصين الأمني وسرية عمله حتى لا يعطي العدو فرصة خوض حروب ناظرة تملك الكثير من المعلومات عن الأهداف الأمنية والعسكرية. دقق حزب الله في تاريخ كل عناصره، وأنشأ أجهزة أمنية احترافية بهدف تنظيف حزب الله ومحيطه من الجواسيس والعملاء، وبهدف جمع معلومات أمنية واستخبارية عن العدو. وقد أثبتت التجربة أن الحزب كان دقيقا واستطاع أن يبقي العدو في حالة جهل شبه مطبق حول نشاطات الحزب، إلى حد كبير جدًا.
حزب الله الآن هو الأكثر غموضا عند إسرائيل، وهي لا تملك الوسائل للوصول إلى أسراره ولا الجواسيس والعملاء. فإذا قورن أداء ن الحزب أمنيا مع الأنظمة العربية نجد أن الحزب كان الأكثر دقة من الناحية الأمنية، والأكثر قدرة على حماية نفسه من الاختراقات. وإن وجدت مشكلة للحزب فهي مشكلة بعض الداخل اللبناني الذي يصر على التعامل مع إسرائيل ويعمل بجد واجتهاد على إضعاف الحزب وخنقه ومحاصرته. وقد رأينا كيف أن لبنانيين كانوا يصرون على تصفية شبكة اتصالات الحزب وإلحاقها بشبكة الاتصالات اللبنانية المخترقة إسرائيليا.
رابعًا، التقدم العلمي
منذ البداية، تخلى الحزب تماما عن العقلية العربية الارتجالية والفهلوية والعشوائية والسحرية والفوضوية، وأقر المنهج العلمي في البناء المجتمعي والسياسي والاقتصادي. التفكير العلمي هو أقصر الطرق للوصول إلى معالجات صحيحة سواء لمواجهة الأزمات أو تحقيق التقدم. والمنهج العلمي هو الذي يقود في النهاية إلى الاكتشاف والاختراع ومن ثم إلى التقدم. ولهذا طور الحزب مراكز أبحاث واستقدم الخبراء في مختلف المجالات، وأصبحت الكلمة ليس للقادة السياسيين وإنما لأصحاب العلم والمعرفة.
السيد حسن نصر الله ليس أبو العرّيف العربي، وإنما هو قائد يستمع ويحاول أن يستجمع من أجل اتخاذ القرارات على أسس علمية. لقد ثبت أن قيادة حزب الله قيادة متنورة وتؤدي عملها بمنهجية علمية سليمة، وتعمل دائما على أن تكون على قدر إمكاناتها ومقدراتها. هي لا تكذب ولا تضلل ولا تهيج المشاعر والعواطف. ولهذا وثق بكلامها العدو والصديق، وأصبح كلام السيد حسن مقياسا للحقيقة في ما يتعلق بالصراع مع إسرائيل.
خامسا: المستوى الأخلاقي
قلما ينتبه قادة العرب إلى المسألة الأخلاقية في أقوالهم وأفعالهم. الأمر مختلف عند حزب الله الذي أثبت أنه قدوة أخلاقية. إنه يختلف مع آخرين، لكنه ليس مستعدا للدخول في نشاطات تخرج عن أدب الاختلاف، أو أن يزج نفسه في مواقف قد يندم عليها. إنه يتعامل مع الآخرين بطاقة أخلاقية رفيعة تليق بالأخلاق الإسلامية، ولا يحاول فرض نفسه، أو التكبر أو المنة. قد يجره الداخل اللبناني أحيانا إلى مواقف قد تؤدي إلى انتقاده، لكن ضرورات الدفاع عن الذات تتطلب عدم التفريط. حزب الله أنشأ مؤسسات اجتماعية وثقافية وصحية واقتصادية من أجل أن يحقق نوعا من الاستقرار الحياتي لمجتمعه، وعندما تدمرت قرى لبنانية في حرب العام 2006، قدم الحزب تعويضات للمسيحي قبل المسلم، وللسني قبل الشيعي.
سادسًا، النموذج
قدم الحزب نموذجا تكتيكيا عسكريا عبقريا سيبقى درسا من دروس العسكرتارية على مستوى العالم عبر التاريخ، وهو تحييد القوة العسكرية الجوية الإسرائيلية الضاربة. استطاع الحزب أن يفقد الطيران الإسرائيلي في حرب تموز/ يوليو 2006 فاعليته، وذلك باستخدام الأنفاق وشبكة اتصالات بدائية. لم يستطع طيران إسرائيل في تلك الحرب ضرب المقاتلين أو مخازن الأسلحة أو المواقع العسكرية، وشلت فعاليته الحربية، فتوجه إلى ضرب المدنيين وتدمير البيوت. وبسبب شبكة الأنفاق والتسليح المتطور، استطاع الحزب أن يشل سلاح المدرعات الإسرائيلي، الأمر الذي اضطر إسرائيل إلى قبول وقف إطلاق النار من دون تحقيق أي هدف من أهداف الحرب.
انتصار حزب الله
حزب الله انتصر في حرب 2006، وكان ذلك الانتصار الثاني الذي يحققه العرب ضد إسرائيل، لكنه لم يكن انتصارا يؤدي إلى زوال إسرائيل. كان خطوة هامة على الطريق ومؤشرا قويا إلى أن العد التصاعدي العربي الذي بدأ في العام 2000 قد تأكد، وأن العد التنازلي الإسرائيلي بقي مستمرا. بالنسبة إلى إسرائيل، جيشها أخفق العام 2006، لكن العرب ما زالوا يصرون على أن إسرائيل انتصرت والحزب قد هزم. هذا ليس غريبا لأن المستويات الرسمية العربية تكره الانتصار، وتعد المنتصرين ندًا لها، يمكن أن يحلوا محلها مستقبلا. ومع هذا فمن المؤكد أن المستقبل للمقاومة والخزي للأنظمة العربية وأعوانها.
تجربة غزة
واضح من مجريات الأمور في قطاع غزة في حروب 2008/2009، 2012 و 2014، أن غزة قد استفادت كثيرا من تجربة حزب الله، سواء في مسألة الأنفاق أو تصنيع السلاح أو تحييد الطيران أو التحصين الأمني. لم يبخل حزب الله على المقاومة الفلسطينية لا بالمعلومة ولا بالتجربة، ومع خلافه مع بعض أطراف المقاومة الفلسطينية بشأن الوضع السوري، إلا أنه مستعد دائما لتقديم كل عون ممكن للفلسطينيين.
تأثرت شعبية الحزب إلى حد ما عقب الأحداث في سوريا، لكن الحزب ما زال مسيطرا على الوضع العسكري، ولن يكون مفاجئا إن حرر جزءًا من الجليل الفلسطيني مستقبلًا، الأمر الذي سيبعث الأمل في نفوس أهل الضفة الغربية وغزة للتخلص من الاحتلال والحصار.
* كاتب
وأكاديمي فلسطيني - أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح/نابلس
بتوقيت بيروت